انتشار العنف فی وسط عرب 48.. من یتحمل المسؤولیة؟
انتشار العنف فی وسط عرب 48.. من یتحمل المسؤولیة؟
عبد اللطیف الحناشی
تظاهر خلال الأسبوع الماضی نحو ألف عربی من منطقة الـ48 فی مدینة اللّد، احتجاجا على أعمال العنف والقتل التی اجتاحت المدینة مؤخرا، وکانت المدینة نفسها قد فقدت عشرات من أبنائها منذ تسعینات القرن الماضی، لدرجة أن البعض شبّهها بمدینة شیکاغو الأمریکیة نظرا لارتفاع عدد الضحایا، وفی الواقع لا تقتصر ظاهرة انتشار العنف على تلک المدینة بل تشمل أغلب المدن العربیة الفلسطینیة، وقد لاحظ النائب د.جمال زحالقة، رئیس کتلة التجمع البرلمانیة، مؤخرا، تحول تلک الظاهرة إلى مشکلة أساسیة فی أوساط عرب 48 تهدد النسیج الاجتماعی وتضعه فی منطقة خطرة.
وبالفعل، عرفت السنوات الأخیرة ارتفاعا ملحوظا فی معدلات الجریمة فی أوساط المجتمع العربی الفلسطینی، ففی سنة 2009 ارتفع معدل الجریمة بنسبة 8.4 فی المائة مقارنة بالنسبة السابقة، وقُتل 120 من سکان الدولة على خلفیة جنائیة، منهم 80 عربیا، من ضمنها 9 عملیات قتل ضد نساء "فی نفس العام قتلت 3 نساء یهودیات".
وتنتشر مظاهر العنف فی زوایا ومناطق مختلفة من المدن العربیة: فی العائلة وفی الشارع وبین البالغین وفی المدارس، وتمس شرائح اجتماعیة مختلفة من الشباب والأطفال والنساء والشیوخ..
وإن تبدو هذه الممارسة السلوکیة غیر السویة فی بقیة "المجتمعات الطبیعیة" ظاهرة اجتماعیة وکإفراز للتناقضات الاجتماعیة والاقتصادیة التی تعرفها تلک المجتمعات، فإنها لا تبدو کذلک بالنسبة لمجتمع یعیش تحت الاحتلال. فالسکان العرب الفلسطینیون الأصلیون الذین یعیشون فی أراضی 48 یتعرضون إلى عنف ممنهج متعدد الأبعاد والغایات، سواء من قبل السکان الیهود الصهاینة أو من قبل الإدارة والجهاز الأمنی.
ویتخذ هذا العنف طابع الحدة والشمولیة أحیانا، ولکنه فی الغالب یسری فی ثنایا الحیاة الیومیة للسکان الأصلیین فی علاقاتهم مع الآخر، بل فی کل الأشیاء المفروضة ضد إرادتهم وکرامتهم وثقافتهم مما یؤدی إلى انتقال تلک الممارسة الاستعماریة الصهیونیة الیومیة العنیفة فی اللاوعی العربی الجماعی بالضرورة..
وإن کان العلاج الناجع الوحید لأمراض الشعوب الواقعة تحت الاحتلال هو المقاومة، والمقاومة العنیفة تحدیدا، کما یقول "فرانتز فانون" حتى تخرج طاقة الغضب والکراهیة والشعور بالمهانة نحو المتسبب فی وجود هذه الطاقة السلبیة، غیر أن هذا السلوک أو تلک الممارسة، فی حالة الأقلیة العربیة الفلسطینیة الخاضعة للاحتلال الصهیونی، تَرْتَدُّ على المجتمع العربی نفسه فی اتجاهات خاطئة فی الغالب تضر بأفراده وبـ"المریض" نفسه، وتزید من تراکم الطاقات السلبیة بداخله، ومن ثم تعید هذه الطاقات إنتاج نفسها بشکل أکبر وأخطر على المجتمع الأهلی.
ویقول البروفیسور مروان دویری فی توصیف لانتشار ظاهرة العنف فی المجتمع الفلسطینی: "إنها حالة انفلات انخفض فیها عنف السلطة الاجتماعیة والتربویة، وارتفع فیها عنف الفئات المحبَطة والضائعة، ولا سیّما عنف الشباب... الأمر الثانی الذی یمیّز العنف الیوم هو أنّه عنف مُنْزاحٌ "Displaced" أو "طائش" یخطئ الهدفَ ویکون نوعًا من "التفشیش" "التنفیس" ضدّ "کبش فداء" لیس له حتمًا علاقة بمصدر الإحباط الحقیقی".
تختلف أسباب انتشار العنف وتتفاوت حسب المجتمعات والمناطق الجغرافیة والمتغیرات الاقتصادیة والسیاسیة والثقافیة، نسبیا، غیر أنها تبدو ذات خصوصیة وطبیعة نوعیة فی أوساط عرب 48، فتفسیر تصاعد الجریمة وتوسعها بالأسباب الاقتصادیة والاجتماعیة التی نتجت عن التحولات التی أحدثها النظام الاستعماری الصهیونی غیر کاف معرفیّا ومنهجیّا لتحلیل هذه الظاهرة، إذ من الضروری البحث فی الوقت ذاته عن کیفیة ردّ فعل المؤسسات الردعیة المختلفة للنظام بدءا من القوانین المعتمدة إلى العاملین فی مختلف أجهزة الضبط والعقاب من أعوان الشرطة ورجال القضاء وسلوک کل هؤلاء تجاه العرب الفلسطینیین الخارجین عن "القانون" وتجاه ممارساتهم، واعتبارها أحد العوامل اللاواعیة الحاثّة، بشکل مباشر أو غیر مباشر، على ارتکاب المخالفات...
فالسیاسة الإسرائیلیة الرسمیة تجاه العرب، هی فی الأصل نتاج الأیدیولوجیة الصهیونیة، المستندة إلى التمییز العنصری على أساس قومی ودینی، والتی تطال کافة مجالات حیاة عرب 48. کما أن انتشار ثقافة العنف التی تجتاح المجتمع الإسرائیلی والتوتر السیاسی والأمنی الیومی المتواصل وکافة الممارسات القمعیة والحروب التی خاضتها وتخوضها إسرائیل ضد الفلسطینیین والعرب عامة تجعل حیاة هؤلاء مشحونة بالإحباط والغضب، وهو ما یشکّل أرضیة خصبة للعنف والانحراف، ومن رحمها تتناسل بقیة العوامل کضعف الوازع الأخلاقی والقیمی نتیجة التدهور الذی عرفته قیم المجتمع، وخاصة تراجع سلطة العائلة على أبنائها بالإضافة إلى التحدیث القسری للمجتمع الذی یتفاعل مع ثقافة مسیطرة صهیونیة ذات طبیعة عنیفة تعتمد القوّة والغطرسة وانتهاک حقوق الغیر..
وتتحمل الدولة بکامل أجهزتها مسؤولیة مباشرة فی توالد مظاهر العنف وانتشاره، ففی الوقت الذی ینصبّ اهتمام الإدارة على أمن الیهود وأحیائهم تُهمل أمر أمن "المدینة والأحیاء العربیة" الاجتماعی ولا تهتم إلا بما یتعلق بالنشاط السیاسی، لذلک ترکت مجال هذه المدینة مرتعاً للرعاع والعاطلین والمهمّشین لیعیثوا فساداً بالأرض والعباد، مما أدى إلى تکاثر الجرائم والتعدیات، کما لا تعالج الأجهزة الأمنیة الإسرائیلیة قضایا الإجرام والعنف فی البلدات والمدن العربیة بنفس الأسلوب والطریقة التی یتم بها معالجة هذه القضایا فی البلدات والمدن الیهودیة.
کما تتهاون الشرطة فی معاقبة المجرمین والمنحرفین من العرب، وغالباً ما تغلق الملفات وتقید الجرائم ضد مجهول. وینطبق نفس السلوک على أجهزة القضاء التی تتعامل بعنصریة صارخة فی تطبیق القانون على الأفراد من العرب، إذ لا تبدی المحاکم نفس الحزم فی اقتلاع الجریمة، فالأحکام التی تفرض على هؤلاء تمثل أضعاف ما یفرض على الیهود فی نفس التهمة، وکذا الأمر بالنسبة للإدانات.
وتشیر بعض المعطیات الإحصائیة إلى أن 62 فی المائة من السجناء الجنائیین یعودون إلى دائرة الجریمة وإلى السجن بعد إطلاق سراحهم "الانتکاسیین"، ولهذا لیس صدفة أن المعطیات الرسمیة تشیر إلى أن نسبة الانتکاسیین العائدین إلى دائرة الجریمة تنخفض سنویا فی الدول المتطورة، فی حین تواصل ارتفاعها فی إسرائیل، إذ ارتفعت هذه النسبة من 58 فی المائة إلى 62 فی المائة بین 2007 و2009...
وأمام انتشار هذا الداء تجندت القوى الوطنیة العربیة لمواجهة هذا الوباء الخطیر الذی ینهش عرب 48، وتتفق أغلب القیادات الفلسطینیة على أن مواجهة ذلک لا تتم إلاّ من خلال معرکة سیاسیّة من أجل تعمیم "دولة رفاه لجمیع المواطنین" التی تُحوِّل طاقات الإحباط نحو مسارات بنّاءة، غیر أن ذلک لا یبدو ناجعا دون تدخل الدولة من خلال تخصیص الأموال والموارد لتطویر الخدمات الاجتماعیة وللنهوض بجهاز التعلیم وتوسیع فرص العمل..
وفی الوقت الذی یحمّل بعض الأکادیمیین الفلسطینیین القیادات السیاسیة والاجتماعیة مسؤولیة عدم القدرة على معالجة الظاهرة، وذلک من خلال توجیه الإحباط نحو قنوات نضال بناءة، وإعطاء المثال والنموذج الشخصیّ فی الحوار واحترام الغیر وسَعَة الصدر، یرى البعض الآخر أن من أسباب الأزمة التی یعیشها المجتمع العربی تکمن فی أداء القیادات العربیة المحلیة أو القطریة، السیاسیة والدینیة، التربویة والثقافیة، الذی یبدو دون فاعلیة سواء فی إدارة الأزمات أو فی محاولة تشخیص العنف وأسبابه والمساهمة فی تقدیم الحلول الناجعة.
وحسب هؤلاء، تعالج الأمور فی الغالب بطرق تقلیدیة "صلح عشائری" لإرضاء الخواطر وإطفاء النیران دون العمل بجدیة للحد من العصبیة والتعصب بالإضافة إلى سیادة نزعة التخوین وحتى التکفیر فی أوساط الأحزاب الوطنیة العربیة المحلیة النابذة لقیم التعددیة والحوار..
کما تشیر أغلب البحوث، الفلسطینیة، التی أنجزت لرصد ظاهرة انتشار العنف والبحث عن أسباب الجریمة فی أوساط عرب 48 إلى دور الأوضاع الاقتصادیة والاجتماعیة السیئة للأقلیة العربیة، ویتمثل ذلک خاصة فی انتشار الفقر والبطالة بنسب مرتفعة فی صفوف العرب إلى جانب نقص المدارس واکتظاظ الصفوف المدرسیة وانسداد فرص التعلیم والآفاق أمام الشباب.. بالإضافة إلى الاکتظاظ السکانی الذی تعرفه المدن والأحیاء والبلدات العربیة لعدم تمکین السکان العرب من إقامة مدن وأحیاء جدیدة..
ومهما کان الأمر، لا تبدو ظاهرة انتشار العنف والجریمة فی أوساط عرب 48 بظاهرة فریدة فی تاریخ الشعوب المستعمرة، کما لا تبدو نسبتها کبیرة وضخمة مقارنة بما حدث فی الجزائر مثلا، حسب ما بینته بحوث "فرانتز فانون"، أو من خلال بحث قمنا به تحت عنوان "الاستعمار الفرنسی والتحکم فی المجال أمنیا فی البلاد التونسیة خلال فترة بین الحربین"، وذلک بالرغم من الاختلاف فی طبیعة الاستعمار الفرنسی والصهیونی من ناحیة، وسیادة أغلبیة عربیة مقابل أقلیة فرنسیة استیطانیة من ناحیة أخرى؛ وهو ما ساهم فی ارتفاع ظاهرة العنف والجریمة فی تلک الأوساط العربیة الجزائریة والتونسیة.. غیر أن الحرکة الوطنیة فی کل من الجزائر وتونس تمکنت من تجاوز کل العقبات وحشد الجماهیر فی النضال الوطنی العام ضد الاستعمار، مما ساهم إلى حد بعید فی تقلیص ظاهرة العنف الاجتماعی وتوجیه تلک الطاقات باتجاه المحتل من خلال العنف المسلح "حالة الجزائر" أو باتجاه النضال السلمی فی إطار الأحزاب والجمعیات "تونس".
وإن کانت حالة عرب 48 وخصوصیتها کأقلیة لا تستدعی توجیه تلک الطاقات إلى العنف المنظم تجاه الدولة المهیمنة، فإن الأمر یتطلب من النخبة السیاسیة والثقافیة والتربویة الفلسطینیة المناضلة المزید من العمل فی أوساط جماهیرها لتأطیرها فی الأحزاب ومنظمات المجتمع المدنی لخوض نضال مدنی سلمی ینتشل أفراد الأقلیة من التهمیش والاغتراب باتجاه تحقیق الأهداف الوطنیة والقومیة.. وهی بلا شکّ قادرة على خوض هذا التحدی، کما بینت وتبین ممارستها النضالیة الیومیة ضد النظام العنصری الصهیونی..
ن/25