الاثنين 14 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

کیف ستبدو الانتفاضة الثالثة..؟!

 

عوض عبد الفتاح

 

لا یزال السؤال، لماذا توقفت الثورة العربیة الکبرى على أبواب فلسطین؟ یتردد فی کل مکان. وقد وجدت هذا السؤال یواجهنی أینما حللت أثناء جولة اللقاءات والمحاضرات التی قمت بها فی عدد من الولایات الأمریکیة.

فالفلسطینی والعربی والأمریکی یطرحون نفس السؤال. کما یطرح من هو مطّلع على واقع فلسطینیی الـ48، حاملی المواطنة الإسرائیلیة، السؤال: "کل هذا العداء، وسیل القوانین العنصریة، والهدم، ولیبرمان الذی یرید تهجیرکم، ألیس کافیًا للخروج بمظاهرات عارمة تعبّر عن غضبکم ورفضکم؟".

لا شک أن هذا السؤال سواء فیما یتعلق بفلسطینیی الـ67 أو فلسطینیی الـ48 وجیه وشرعی ونتداول فیه منذ فترة طویلة، وتنبع وجاهته وشرعیته أولاً؛ من وجود ألف سبب لثورة أو لانتفاضة فلسطینیة، وثانیًا؛ من حاجة الشعب الفلسطینی إلى الحریة والاستقلال والعدالة، ولأنه الشعب العربی الوحید الذی سلب وطنه بالکامل والذی لم ینل استقلاله. وثالثًا؛ من وجود الحاجة لأن یلفت عرب الداخل أنظار المجتمع الدولی لوجودهم وتعرضهم لنظام قهر.

لا یقصد السائل أو السائلون معرفة الأسباب وراء تأخر الانفجار الشعبی الفلسطینی، فقط، بل یعبرون عن رغبتهم لرؤیة الشعب الفلسطینی یطلق ثورته أو انتفاضته لانتزاع حقه فی الحیاة الحرة الکریمة.

هذا السؤال یشغل أوساطا فی النخب الفلسطینیة السیاسیة والمیدانیة والأکادیمیة والمثقفة. ویفترض بالإجابة أن تشمل تشخیصا للحالة الفلسطینیة، والمعیقات الماثلة أمام الانتقال من الحالة السیاسیة والمیدانیة الراهنة إلى حالة من الحراک الشعبی تتجلى فیه إبداعات وطاقات القوى المرشحة لحمل وقیادة التغییر. والأهم فإن الإجابة یجب أن تشمل تحدید الشروط والمقدمات والآلیات والأسالیب وکذلک الأهداف لهذه العملیة.

وبطبیعة الحال، سیشمل البحث عن الطریق نحو المرحلة القادمة الإجابة عن السؤال کیف سیکون دور بقیة التجمعات الفلسطینیة التی إما هُمّشت أو أن الظروف همشتها فی جولات المنازلة التی جرت بین إسرائیل والشعب الفسطینی على مدار العقود الماضیة؛ وبشکل خاص الانتفاضة الأولى والانتفاضة الثانیة. وهذه التجمعات هی: اللاجئون فی الشتات، وفلسطینیو الـ48.. مع أن الأخیرین خاضوا أربعة أیام متتالیة من المواجهات مع قوات القمع بصدورهم العاریة مفجرین مخزونًا هائلاً من الغضب والإحباط تراکم على مدار عشرات من أعوام الظلم والقهر والتهمیش وذلک فی الأیام الأولى لهبة القدس والأقصى.

ولکن شروط استمراریتها لم تکن قد توفرت. ومن هذه الشروط حضور عرب الداخل فی الاستراتیجیة الفلسطینیة. فالقیادة الرسمیة کانت حددت مطلبها منهم بأن یکونوا مخزون احتیاط أصوات لحزب العمل الإسرائیلی الموقع على اتفاقیة أوسلو.

یذکر أن أحد قادة السلطة الفلسطینیة لام فلسطینیی الـ48 على "ثورتهم" بادعاء أن ذلک أخاف الاسرائیلیین وجعلهم یترددون أکثر فی التجاوب مع مطالب المفاوض الفلسطینی المحصورة بسقف أوسلو. کان ذلک فی مقابلة مطولة فی أکثر الصحف الاسرائیلیة انتشارًا "یدیعوت أحرونوت". وهذه العقلیة وهذا التوجه کان له خلفیة تمثلت فی توجه بعض القادة الفلسطینیین المتنفذین إلى عرب الداخل للتصویت لحزب العمل الصهیونی، فی أوائل التسعینیات باعتباره أسهل من اللیکود فی المفاوضات دون الاکتراث بالعواقب الوخیمة المترتبة على تصویت عرب الداخل للأحزاب الصهیونیة بالنسبة لهویتهم الوطنیة ولسلوکهم الوطنی.

کل ذلک عکس قصر نظر ونهجا کارثیا فی إدارة الصراع. لم یکن لدى الحرکة الوطنیة الفلسطینیة إستراتیجیة أو رؤیة بخصوص عرب الداخل. وقد یقول قائل، لم یکن أصلاً لدیها إستراتیجیة لتحریر البلاد ولمواجهة الاحتلال. واللافت للنظر أنه أیضًا حتى القوى التی طرحت نفسها بدیلاً وفی مقدمتها حرکة حماس، لم تأت بإستراتیجیة کفاحیة حقیقیة وواضحة ومترابطة. فبالرغم من تضحیاتها الکبیرة فإنها تبدو الآن وکأنها وصلت أو تکاد تصل إلى النقطة التی توقفت عندها القوى الوطنیة التاریخیة المأزومة؛ فهی غیر قادرة على مواصلة التمسک بخیارها الإستراتیجی؛ تحریر کل فلسطین، ولا بطریق المقاومة أو الانتقال إلى نمط جدید من المقاومة، وذلک بسبب التآمر علیها من جهة، وبسبب إخفاقها فی قراءة معطیات التاریخ والواقع بصورة سلیمة من جهة أخرى.

أما القوى الیساریة والدیمقراطیة التی شارکت بفعالیة فی الکفاح الفلسطینی ودفعت أثمانًا کبیرة، فقد تحولت إلى قوى هامشیة فی المجتمع الفلسطینی بل تحول بعضها إلى شاهد زور على النهج الأوسلوی. لم تتمکن هذه القوى حتى اللحظة من الخروج من مأزقها الحاد وتجدید ذاتها؛ فکرها، دورها، وقیاداتها. ولا یظهر حتى الآن أن الثورة العربیة طالت هذه القوى، بل جرى تهمیشها فی أحد أهم إنجازین حفزته هذه الثورة بالنسبة للساحة الفلسطینیة ألا وهو مشروع المصالحة. طبعًا الإنجاز الآخر تمثل فی فتح معبر رفح. هناک من یحاول من داخل بعض الفصائل التقرب إلى الشباب باعتبارهم القوى المرشحة لقیادة المرحلة.. ولکن ذلک یحتاج إلى أکثر من النیّة الطیّبة والرغبة الصادقة.

ویمکن إیجاز بعض أهم المعیقات لإطلاق ثورة تحرّریة جدیدة لإنهاء السیطرة الکولونیالیة على الضفة وعلى القدس:

- الانقسام الجغرافی والسیاسی بین حماس وفتح، وامتداداته العامودیة والأفقیة، بمعنى أن الانقسام لم یقتصر على قیادات الفصیلین وکوادرهم، بل طال القواعد الشعبیة.

- الالتزام الصارم من جانب السلطة الفلسطینیة ببنود اتفاقیة أوسلو- خاصة الأمنیة، بالرغم من تنصل إسرائیل من التزاماتها بها، باستثناء منح شرعیة لبقائها، أی السماح لها بالبقاء على قید الحیاة.

- نشوء شرائح اجتماعیة مستفیدة من واقع أوسلو، توسعت قلیلاً مؤخرًا بفضل سیاسة "السلام الاقتصادی" التی تقودها حکومة سلام فیاض ویشجعها نتنیاهو. کل ذلک أفرز ذهنیة جدیدة مستکینة ومسترخیة تکیفت مع ما أفرزه أوسلو من ارتباط کلی بأموال المانحین- أصدقاء إسرائیل، ومن ذهنیة انهزامیة ومفردات غریبة على حرکة التحرر الوطنی الفلسطینی- مثل التنسیق الأمنی، وغیرها.

- تبلور قناعة أو تکریس قناعة لدى رئیس السلطة الفسطینیة بعدم جدوى المقاومة حتى لو کان طابعها شعبیا وغیر مسلح والذی یتفق علیه الیوم الجمیع، واستلهامًا لثورتی تونس ومصر وغیرها.

- نظام الأبارتهاید الاسرائیلی- الکولونیالی الطابع، الذی أقام الجدار الفاصل، والجدران الألکترونیة الأخرى، وتقطیع منطقة الضفة الغربیة إلى ثلاث وعزل القدس عن محیطها، الذی من أهدافه لیس السیطرة على الأرض والمیاه فحسب، بل أیضًا منع الفلسطینیین من شنّ مقاومة شعبیة ناجعة. ومع ذلک تساءل صحفی اسرائیلی، ماذا ستفعل اسرائیل لو قرر عشرات الألوف من الفلسطینیین الزحف إلى الجدار وتحطیمه؟ کما تساءل صحفی آخر ماذا لو زحف مئات الألوف من اللاجئین إلى الحدود؟

هناک عامل آخر، وهو الإخفاقات المتتالیة للثورات والانتفاضات التی خاضها الشعب الفلسطینی والتی بدل أن تحقق نجاحات سیاسیة على الأقل، أدت إلى تخفیض سقف المطالب الفلسطینیة إلى درجة اختزالها فی التفاوض على ما تبقى من الضفة الغربیة أی على أقل من خمسة عشر بالمائة من فلسطین التاریخیة.

لقد أنهکت هذه الثورات وجولات الصراع ضد الاستعمار الکولونیالی الاسرائیلی الشعب الفلسطینی بسبب الإدارة الکارثیة للصراع أی بسبب عجز القیادة الفلسطینیة عن استثمار التضحیات الجسام التی قدمها شعب فلسطین. وراحت جراء ذلک قطاعات واسعة منه تشعر بعدم جدوى النضال تحت قیادة الطبقة السیاسیة الحالیة.

مع ذلک تمکن شعب فلسطین وقواه الحیة عبر الکفاح البطولی من إحباط المخطط الإسرائیلی فی طمس وتصفیة القضیة الفلسطینیة، وأعادها الى مرکز الاهتمام العربی والدولی. غیر أن هذا الشعب یحتاج إلى الانتصار على النظام الکولونیالی العنصری الإسرائیلی، یحتاج إلى الحریة ووضع حد لمعاناته الرهیبة. ونحن بحاجة إلى سَحْب قضیتنا من سوق التداول ووقف التعامل معها کأداة لتحقیق مصالح أطراف دولیة أو لتعزیز نظام الهیمنة على المنطقة العربیة.

الوضع الراهن

الحدیث عن انتفاضة فلسطینیة سبق انفجار الثورات العربیة بفترة طویلة. وتصاعد هذا الحدیث بعد انتخاب حکومة اسرائیلیة یمینیة متطرفة مصرة على مواصلة مشروعها الکولونیالی فی الضفة والقدس بدون رتوش أو محاولات لتجمیل سیاستها. فوزیر خارجیة اسرائیل، أفیغدور لیبرمان یُعبّر عن الرغبة الخفیّة لنتنیاهو. واتسع النقاش حول هذا الاحتمال بعد المصادمات الأولى فی حیّ سلوان وإخلاء العائلات الفلسطینیة من بیوتها فی الشیخ جراح، وهو مخطط بُدئ بتنفیذه قبل عامین. ولکن القمع الشدید لکل تحرک فلسطینی شعبی مهما کان تواضعه من جانب الاحتلال الاسرائیلی فی مدینة القدس ومحیطها، وهو قمع من نوع خاص، أدى الى تفریغ القدس من الحرکة الوطنیة وقادتها عبر الاعتقال والطرد والحصار والخنق. کما أن سیاسة التطهیر والطرد أدت إلى تقلیل عدد السکان العرب، وبالتالی المسّ بقدرتهم على النضال والمقاومة. کل ذلک حال دون تحوّل الصدامات المحدودة فی حیّ سلوان المهدّدة بعض أحیائه بالهدم، إلى حالة شعبیة مقاومة دائمة.

ولکن ما حال دون انتشار حالة من التعاطف والمساندة لمدینة القدس التی تتعرض لعملیة ذبح منهجیة، هو إحکام السیطرة الأمنیة على مدن وقرى ومخیمات الضفة من خلال التعاون الأمنی بین السلطة الفلسطینیة وإسرائیل، وقرار رئیس السلطة بعدم السماح باندلاع انتفاضة حتى لو کانت سلمیة. لکن لماذا یصبح الآن الحدیث عن انتفاضة أکثر واقعیّة؟ ما هی العوامل المستجدة؟

کما أسلفنا، فإن الحاجة للتغییر موجودة أصلاً. إن شعبًا یرضخ للاستبداد والاحتلال والقمع ویتعرض للقتل الیومی، لا یمکن أن یستسلم. ویتخلى عن طموحاته وعشقه للحریة، وخاصة أجیاله الجدیدة التی لا یمکن أن تقبل العیش مع الظلم الى الأبد. کما أن الحکومة الاسرائیلیة الجدیدة- الیمینیة المتطرفة توفر کل الأسباب لجولة جدیدة من المواجهات، وأقطابها یتوقعون هذه المواجهات منذ أشهر طویلة. وسیفقد من تبقى لدیه من أوهام حول دور إیجابی من الولایات المتحدة، الأمل والإحساس باللاجدوى من مواصلة التمسّک بهذه الأوهام.

 

لقد وضعت الثورات العربیة الشعبیة، المنطقة العربیة على أعتاب حقبة جدیدة وهی فی طریقها إلى إسدال الستار على الحقبة السابقة.. مهما واجهت من مخططات للاحتواء وحرفها عن طریقها. ولن یستطیع أی طرف کان أن یمنع انطلاق القطار الفلسطینی مجددًا. إن تأخره لا یعنی أنه متعطل. فمن داخل الترکیبة السیاسیة القدیمة المتهالکة یتشکل جنین یحمل بذور التغییر الواعد وسیشق طریقه بقوة الإرادة وروح التجدید. وسیکون شعب فلسطین مستعدًا لتحمل المعاناة والتضحیات کما فعل دائمًا.

لقد أدت الثورات العربیة إلى إعادة إحیاء الأفکار الجریئة والمبتکرة التی لم ینظر إلیها بجدیة فی السابق، مثل فکرة زحف اللاجئین إلى الحدود. من کان یتصور حتى قبل فترة قصیرة أن یقدم المئات من أبناء اللاجئین الفلسطینیین الذین لم یروا أرض فلسطین من قبل أن یقتحموا بشجاعة نادرة أخطر نقطة حدود المعروفة أنها منطقة ألغام؟ ثم إن الحراک الشبابی وإن لا زال حتى الآن محدودًا، کان قد انطلق بفعل ثورات الشباب العربی. لقد بدأت اسرائیل تضع هذا التطور ضمن المخاطر الاستراتیجیة التی تواجهها منذ بدایة العقد الأخیر.

إذن نحن الآن أمام معطیات جدیدة مساعدة على إحداث التغییر على ساحة الصراع ضد نظام الأبارتهاید الکولونیالی الاسرائیلی. وهذه المعطیات هی: العودة التدریجیة للبعد العربی للقضیة الفلسطینیة؛ دخول عنصر اللاجئین فی الفعل الثوری أو الحراک باتجاه الوطن، وهو عنصر جرى تهمیشه فی اتفاقیات أوسلو، ولا تزال المؤامرة علیه على أشدها، وهو عنصر باغت إسرائیل المحتارة الآن فی کیفیة الردّ علیه دبلوماسیًا وسیاسیًا، تارکة للردّ الأمنی الخیار الوحید. سیعمق هذا الخیار البربری أزمة إسرائیل الدولیة لأنه سیفتح الجرح من جدید، جرح التطهیر الإثنی الذی دأبت اسرائیل على إخفائه لعشرات السنین. بفضل ذلک ستعود الروایة الفلسطینیة الى الضمیر العالمی مجددًا بقوة، وستظهر عندها الروایة الصهیونیة أکثر عریًا.

المعطى الآخر، هو مشروع المصالحة الذی بدأ، والذی من شأنه إذا ما أجاد الطرفان استکماله على أساس برنامج سیاسی وطنی أن یُعید الاعتبار للحرکة الوطنیة الفلسطینیة ودورها التحرری وبعیدًا عن المحاصصة والهیمنة.

هذه المعطیات جمیعها، هی الحاضنة الاجتماعیة والسیاسیة والمعنویة لتحول جذری قد نرى انطلاقته فی أی لحظة، إما بصورة تدریجیة وهو الاحتمال الأرجح، أو بصورة فجائیة وشاملة.

معالم الانتفاضة الثالثة..

مما تقدم، لن تکون الانتفاضة الثالث مقتصرة على الضفة والقدس، کما کانت الانتفاضة الأولى عام 1987 أو الانتفاضة الثانیة عام 2000. لقد هیأت إسرائیل دون أن تدری، بسیاساتها الحمقاء، ورفضها الحدّ الأدنى من المطالب الفلسطینیة، وتصعید قمعها بصورة غیر مسبوقة منذ السبعینات، هیأت لحالة فلسطینیة شاملة آخذة بالترابط والتواصل والتفکیر المشترک.

فی الانتفاضة الأولى والثانیة شارک الفلسطینیون فی إسرائیل فی الأیام الأولى وبصورة سلیمة، ولکن القمع الوحشی وإطلاق النار وقتل المتظاهرین، ردع الجمهور الفلسطینی داخل الخط الأخضر عن الخروج الى الشوارع بأعداد کبیرة مما أوقف عملیة التفاعل الفعلیة مع النضال الفلسطینی. ولکن التفاعل بدأ یتخذ أشکالاً معنویة وثقافیة أدت إلى تعمیق الوعی السیاسی-الوطنی والقومی والانتماء للشعب الفلسطینی وللأمة العربیة والتفاعل مع نضالاتهم.

وقد حالت أسباب موضوعیة وذاتیة دون تحول هذا الوعی إلى حالة کفاحیة منظمة ودائمة وفاعلة فی نقاط الاحتکاک- حیث نهب الأراضی وهدم البیوت وغیرها من الممارسات العنصریة والعدائیة والقمعیة. الأسباب الموضوعیة هی غیاب حالة سیاسیة منظمة لدى فلسطینیی الداخل "1948". حتى الآن لا یوجد لدینا مؤسسات اقتصادیة مستقلة تُخفف من الاعتماد على الخدمات الاقتصادیة، فالإستراتیجیة الإسرائیلیة قامت منذ البدایة على تحطیم البنیة الاجتماعیة- الاقتصادیة التقلیدیة حتى لا تتوفر للحرکة الوطنیة فی الداخل إمکانیة التحول إلى حالة سیاسیة فعلیة تقود نضالاً فعالاً وضاغطًا على النظام الإسرائیلی العنصری.

العامل الذاتی، هو عجز وتأخر بعض القوى السیاسیة المرکزیة فی فهم مقتضیات المرحلة الراهنة التی وصل إلیها عرب الداخل، سواء بالنسبة لحاجتهم الداخلیة للتبلور والتنظم کمجموعة قومیة، أی حاجته لمرجعیة وطنیة منتخبة تتبنى إستراتیجیة نضالیة حقیقیة ورؤیة سیاسیة وطنیة ودیمقراطیة لموقع ومستقبل فلسطینی الـ48 فی النضال الوطنی والدیمقراطی الذی یخوضه شعب فلسطین ومعه أحرار العالم من أجل تحقیق العدالة.

طابع الانتفاضة الثالثة

من الواضح أن طابع الانتفاضة الثالثة سیکون طابعًا أقرب الى الانتفاضة الأولى وإلى الانتفاضات العربیة التی أسقطت الاستبداد. وهو ما تجمع علیه غالبیة القوى المرکزیة فی الساحة الفسطینیة. لقد تأکد الیوم للجمیع أن الانتفاضة الأولى لم تحقق غایتها فی دحر الاحتلال لیس لأنها کانت غیر عنفیة. بل لأن طریقة التدخل من قیادة الخارج کانت تخریبیة.

لقد عبّرت تلک الانتفاضة عن مستوى حضاری عالٍ ومستوى عالٍ من الانضباط والالتزام بوسائل النضال المحددة آنذاک رغم أن المواثیق الدولیة تُجیز للواقع تحت الاحتلال اللجوء الى العنف الثوری وهو محفوظ للشعوب، تلجأ إلیه متى تعتقد أنه یُفیدها، وتعلقه متى تعتقد أنه یضرها. وأحیانًا تجمع بین الوسائل المختلفة من النضال إذا ما قررت قیادتها أنه ضروری.

إن ما سیشجع وما یهیئ لولوج کافة التجمعات الفلسطینیة إلى الانتفاضة الثالثة، عدة عوامل:

أولاً؛ الطابع الشعبی غیر العنفی المجمع علیه من کافة القوى الفلسطینیة.

ثانیًا؛ إصرار ومواصلة إسرائیل تصعیدها لعدائها فی إجراءاتها القمعیة لکافة التجمعات الفلسطینیة، فهی لا تفرق بین فلسطینیی الـ48 وبقیة الفلسطینیین فی ممارستها. فهذا الجزء من شعب فلسطین أصبح جزءا من "العدو الفلسطینی"، فی نظر إسرائیل، وستدرک تلک الشرائح منه المرتبطة مصلحتها بالنظام الإسرائیلی أهمیة وقوفها الفعلی فی خندق النضال ضد هذا النظام والتفاعل مع نضالات إخوتهم الفلسطینیین وأقربهائهم فی المخیّمات الراغبین والمصرّین على العودة الى وطنهم الذین شُرّدوا منه عنوة وبقوة السلاح. لن یلتفت العالم إلیهم ولا حتى إخوتهم إذا تخلوا عن دورهم السیاسی.

ثالثًا؛ بدایة دخول موضوعة حقوق عرب الداخل فی تفکیر بعض النخب الفلسطینیة المهتمة بتطویر النضال الفلسطینی "وطرح تصور لحل شامل للقضیة الفلسطینیة وللمسألة الیهودیة الإسرائیلیة فی فلسطین. وهذا من شأنه تشجیع المترددین والمرتابین من ربط قضیة هذا الجزء من شعبنا مع نضال الحرکة الوطنیة الفلسطینیة عمومًا، ودفعهم إلى الإدراک أن مصدر الظلم اللاحق بأهالی الضفة والقطاع واللاجئین هو نفس مصدر الأذى اللاحق بهم، والخطر الذی یتهددهم ویتهدد حقوقهم ووجودهم القومی.

رابعًا؛ تطور المقاربة الفلسطینیة الإنسانیة للمسألة الیهودیة فی فلسطین وتبلور رؤیة دیمقراطیة منهجیة ومتماسکة تنص على الاستعداد للعیش فی دولة المواطنین، إما دولة ثنائیة القومیة أو دولة دیمقراطیة علمانیة. وهو بدیل عن الصراع الأبدی والتناحری وبدیل عن النظام العنصری الإسرائیلی. هذه الرؤیة تظهر للکثیرین رؤیة طوباویة حالمة، ولکنها تحظى مؤخرًا بزحم ومن شأنها أن تُعید بناء ثقافة دیمقراطیة إنسانیة على المدى الطویل، وتفتح الباب للأجیال القادمة لصیاغة مستقبلها على أنقاض الاضطهاد والعنصریة والاستعمار.

ما هو السقف الذی یجمع الشعب؟

لا یوجد، حتى الآن، إجماع أو اتفاق حول سقف واحد یجمع القوى السیاسیة الفلسطینیة، رغم أن المستجدات العربیة والمحلیة تدفع بهذا الاتجاه. فحتى حرکة حماس اقتربت من فکرة الدولة المستقلة فی الضفة والقطاع ولو تکتیکیًا، أی فکرة التقسیم "لیس بالطبع على أساس قرار الأمم المتحدة". ولکن کما هو معروف، فإن قبول منظمة التحریر الفلسطینیة لفکرة الدولة على کل جزء یُحرر من الوطن عام 1974، تحول لاحقًا الى نظام بانتوستونات وإلى الاعتراف بإسرائیل ضمنًا کدولة یهودیة وعلى 78 بالمئة من فلسطین التاریخیة تارکًا مصیر اللاجئین لمشیئة إسرائیل، ومتخلیًا عن فلسطنیی الـ48 لیبقوا رازحین تحت نیر القهر العنصری إلى الأبد.

ومع ذلک، وطالما أن منطق التحولات والتفاعلات الجاریة قد تفرز قوى جدیدة "شبابیة بشکل خاص" وتولد أفکارًا جدیدة وتعزز توجهات سیاسیة جدیدة تتعلق بخیارات حلول بدیلة، فإن ذلک سیدفع إلى توسع الأوساط المهتمة بهذه الخیارات والرؤى. وهنا یأتی سؤال عرب الداخل وبالتحدید الحرکة الوطنیة داخل الخط الأخضر المتعلق بدورهم ومساهمتهم فی الوضع الجدید الآخذ بالتشکل.

ویستدعی تناول هذا الموضوع حذرًا خاصًا ومعرفة دقیقة بواقعهم المرکب، لإتقان إدارة معرکتهم السیاسیة والأیدلوجیة والشعبیة فی إطار المعرکة العامة. وواجب الجمیع المشارکة فی ذلک، والإدلاء بدلوه، ورفض القول المبتذل، "أهل مکة أدرى بشعابها".

إن واجب الحرکة الوطنیة الفلسطینیة ونخبها الواعیة والمطلعة أن تتناول ظروف وحقوق وأدوار جمیع تجمعات الشعب الفلسطینی ضمن استراتیجیة واحدة مع الأخذ بعین الاعتبار خصوصیة کل تجمع. واضح أن من هو غارق فی ثقافة الحقبة الأوسلویة البائسة حتى اللحظة غیر متوقع منه أن یقوم بهذه المهمة. فهذه الحقبة أحدثت تآکلاً کبیرًا فی القیم الوطنیة التحرریة.

 

لیس المطلوب التخلی عن مطلب الدولة الفلسطینیة فی الضفة والقطاع، وإن کان هذا المطلب لا یقل طوباویة عن خیار الدولة الواحدة. ولکن المطلوب هو عدم منح الشرعیة للصهیونیة ومشروعها الکولونیالی العنصری، حتى عندما یجری الحدیث عن الحل المرحلی المثبت فی قرارات المجلس الوطنی الفلسطینی.

ففی داخل الخط الأخضر، یتصدر حزب التجمع الوطنی الدیمقراطی هذه المعرکة الأیدلوجیة ضد الصهیونیة، ویشترط تحقیق المساواة بإلغاء الطابع الصهیونی لدولة اسرائیل، أی إلغاء الامتیازات المخصصة للأکثریة الیهودیة وهی امتیازات تم تحصیلها عبر أکبر عملیة سطو بدأت قبل إقامة إسرائیل ولا تزال مستمرة على قدم وساق فی کافة أرجاء الوطن، تقوم به الدولة العبریة المعترف بها من الأمم المتحدة والموقعة على مواثیقها التی تنص على احترام مبدأ المساواة بین المواطنین واحترام حق الأقلیات.

ویذکر أن التجمع الوطنی الدیمقراطی أحدث ثورة فی الفکر السیاسی أو فی المقاربة السیاسیة والأیدلوجیة للنظام العنصری الاسرائیلی، منذ انطلاقه عام 1995 وتحول خطابه الذی یجمع بین الهویة القومیة والمواطنة الکاملة أو المواطنة الدیمقراطیة إلى الخطاب شبه الرسمی لعرب الداخل.

لا یمکن بعد الیوم لأحد أن یقلل من شأن اللاجئین، حقهم ودورهم، بعد أن بدأوا الإعداد لثورتهم، ولا عرب الـ48 بعد أن قطعوا شوطًا فی وعیهم السیاسی، وارتباط أجیالهم الشابة بالقضیة الوطنیة، وفی ظل العداء المستشری ضدهم من جانب الدولة العبریة ومجتمعها الاستیطانی.

لقد استمدوا زادًا فکریًا وإرادة واعدة من تاریخ شعبنا الکفاحی ومن معین الثورة العربیة، مسلحین بالحق وعدالة القضیة. کما لا یجوز بعد الیوم التقلیل من شأن دور الجالیات الفلسطینیة فی أوروبا والولایات المتحدة الأمریکیة وبلاد أخرى، فی المساهمة فی إحیاء قضیة اللاجئین، وربما یُنتظر منهم تعزیز حقوقهم لقض مضاجع الأوساط الرسمیة وغیر الرسمیة الداعمة لنظام الأبارتهاید الاسرائیلی البغیض.

یبقى على هذه التجمعات، کیف تُعجّل عملیة تحضیر البنیة التحتیة لنضال طویل- مثل بناء اللجان الشعبیة وتعزیز التنسیق بین القوى الفاعلة والناشئة. فلن تتحرک الأمور لوحدها، وهناک حاجة لترکیم النشاط وصولاً إلى حالة شعبیة کفاحیة دائمة.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 143181







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)