للمرة الثانیة.. واشنطن تضیع فرصة إستراتیجیة

للمرة الثانیة.. واشنطن تضیع فرصة إستراتیجیة
نقولا ناصر
فی مصر ضیعت الولایات المتحدة الأمریکیة فرصة تاریخیة إستراتیجیة لإقامة علاقات صحیة لتبادل المصالح على أساس الاحترام المتبادل مع العرب بعد أن خرجت من الحرب العالمیة الثانیة قائدة للمعسکر الغربی، وفی مصر الیوم تکاد تضیع فرصة مماثلة بعد أن خرجت من الحرب الباردة مع الاتحاد السوفیاتی السابق صانعة رئیسیة للقرار الدولی.
وفی مصر فشلت الولایات المتحدة الأمریکیة فی أول اختبار استراتیجی إقلیمی لها فی الوطن العربی بعد الحرب العالمیة الثانیة، إذ بدل أن تکون رافعة لإزالة بقایا الاستعمار الأوروبی فیه لتدخل فی شراکة إستراتیجیة مع العرب، فإنها سعت إلى أن تکون وریثة للاستعمار الأوروبی فی وطنهم الکبیر وما حوله، لتصطف فی خندق معاد للأمة وشعوبها الطامحة إلى الحریة والتحرر والاستقلال الوطنی والوحدة، فی إستراتیجیة بدأت بالقواعد والأحلاف العسکریة والهیمنة السیاسیة والاستغلال الاقتصادی لاقتصادیات الدول العربیة التی أنهکها الاستعمار الأوروبی المباشر بمساعدات اقتصادیة مشروطة سیاسیا وانتهت فی العراق بالاحتلال العسکری المباشر على نمط الاستعمار الأوروبی القدیم للسیطرة على الثروات العربیة.
فعندما قاد الرئیس المصری الراحل جمال عبد الناصر ثورة وطنیة للتخلص من مخلفات الاستعمار البریطانی لجأ إلى الولایات المتحدة طالبا دعمها السیاسی لتصفیة بقایا الوجود العسکری البریطانی فی بلده، ودعمها العسکری لبناء جیش یسترد کرامته المهنیة والوطنیة التی أهینت فی مواجهة عصابات صهیونیة لم تکن قد تحولت إلى جیش بعد على أرض فلسطین عام 1948، ودعمها الاقتصادی لإیقاف الاقتصاد المصری على قدمیه، وبحکم الموقع والمرکز المحوری الذی تتمتع مصر به فی وطنها الکبیر کانت الاستجابة الأمریکیة فی حینه ستؤسس لشراکة عربیة- أمریکیة إستراتیجیة، لکن واشنطن فشلت فی التقاط الفرصة التاریخیة الإستراتیجیة، فخذلته فی المجالات الثلاث.
وهکذا دخل الاتحاد السوفیاتی الوطن العربی من بوابته المصریة، لیدعم القاهرة فی إخراج القوات البریطانیة من منطقة قناة السویس، ویعرض السلاح السوفیاتی بدیلا للسلاح الأمریکی عتادا للجیش الوطنی، ویعزز تأمیم القناة وبناء السد العالی بخبرة سوفیاتیة بدیلا للتمویل والخبرة الأمریکیة لمشروع مصری حیوی، لیؤسس الفشل الاستراتیجی الأمریکی لشراکة إستراتیجیة بین الحرکة القومیة العربیة التی قادها عبد الناصر وبین منظومة الدول الاشتراکیة التی کان الاتحاد السوفیاتی یقودها.
والیوم، فی مصر أیضا، یشهد المراقب بأم عینیه کیف تفشل الولایات المتحدة فی اختبارها الثانی، لتصطف مجددا ضد الأمة وشعوبها الطامحة إلى الحریة والتحرر والاستقلال الوطنی والوحدة، فی إستراتیجیة ما زالت تصطف إلى جانب أنظمة استبداد مفروضة على شعوبها بالدعم الأجنبی کضمان تعتبره الأفضل للحفاظ على "مصالحها الحیویة"، عندما تطالب بـ"إصلاح" هذه الأنظمة بینما الشعوب تضحی بدمائها فی کفاحها من أجل تغییر الأنظمة، لا إصلاحها، لتضیع للمرة الثانیة فرصة تاریخیة إستراتیجیة لشراکة عربیة أمریکیة لتبادل المصالح قائمة على أساس الاحترام المتبادل للإرادة الوطنیة والشعبیة.
وفی الاختبارین کان السبب الرئیسی للفشل الأمریکی هو تقدیم الحرص على ضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائیلی کهدف استراتیجی للولایات المتحدة على المصالح الحیویة الأمریکیة نفسها باعتباره فی رأس هذه المصالح. فواشنطن فی الاختبار الأول الأقدم ألقت مصر وغیرها من الأقطار العربیة-- التی وصلت فیها الحرکة القومیة العربیة إلى سدة الحکم بعد غلیان شعبی عم الشوارع العربیة کما هو الحال الآن-- فی أحضان التحالف مع الاتحاد السوفیاتی عندما رفضت الاستجابة لطلبات عبد الناصر المشروعة العسکریة والمالیة والسیاسیة حرصا منها على عدم توتیر علاقاتها مع دولة الاحتلال الإسرائیلی. وهی الیوم تسعى جاهدة إلى إنقاذ نظام الحکم فی بلد سدت الجماهیر الشعبیة کل شوارعها من أجل تغییره لأنها تخشى أن یکون البدیل خطرا على معاهدة سلام کامب دیفید التی تضمن أمن دولة الاحتلال الإسرائیلی، فی وقت تجمع فیه کل دول الجامعة العربیة على محاولة استرضائها بکل الطرق وعدم استعدائها، وهذه حقیقة واقعة، بغض النظر عن الأسباب والدوافع المتعددة المختلفة لهذا الإجماع، القسری منها والاختیاری.
فی الأول من الشهر الجاری قال رئیس موظفی البیت الأبیض الأمریکی، ولیام دالی، فی مقابلة مع بلومبیرغ إن "الشرق الأوسط قد لا یعود أبدا" إلى ما کان علیه قبل عشرة أیام. ولهذا السبب فإن الولایات المتحدة "تخطط لسلسة کاملة من السیناریوهات" کما قال المتحدث باسم البیت الأبیض روبرت غیبس. وفی مصر على وجه التحدید، تتلخص هذه السیناریوهات فی "ضمان أن لا تکون أی حکومة جدیدة معادیة عداء معدیا لأمریکا ولا معادیة عداوة صریحة لإسرائیل" کما قال ستیفن م. والت الأستاذ بجامعة هارفارد الأمریکیة، وما ینطبق على أی سیاسة أمریکیة جدیدة تجاه مصر سوف ینطبق أیضا على أی تغییر سیاسی فی الدول العربیة الأخرى الحلیفة أو الصدیقة للولایات المتحدة.
إن الاعتراف الأمریکی بعد فوات الأوان بأن الرئیس حسنی مبارک قد أصبح حصانا أمریکا خاسرا ما زال اعترافا مترددا لم یرق بعد إلى قرار بإطلاق رصاصة رحمة أمریکیة علیه خشیة إرسال رسالة إلى نظراء إقلیمیین له بأن الولایات المتحدة لیست مخلصة لحلفائها وسرعان ما تتخلى عنهم، لکن هذه رسالة أمریکیة مکررة فی العالم کافة وقد وصلت واضحة جلیة بالرغم من الغمغمة الدبلوماسیة الأمریکیة التی تستهدف دراسة فرصها للاختیار من بین "أهون الشرور" أکثر مما تعبر عن "خجل" أمریکی من ممارسة مألوفة لم تعد خافیة على أحد، حتى على الوکیل الإسرائیلی الإقلیمی للولایات المتحدة، فـ"أمریکا .. أدارت ظهرها خلال یوم واحد لواحد من أهم حلفائها فی الشرق الأوسط .. والاستنتاج عندنا فی إسرائیل یجب أن یکون هو أن.. البیت الأبیض من شأنه أن یبیعنا من الیوم إلى الغد .. فلیحمنا الرب"، کما کتب احدهم فی "یدیعوت أحرونوت".
ویتلخص الحراک الرسمی الأمریکی حتى الآن فی محاولة بائسة لتنسیق عملیة تقود إلى التخلص من مبارک دون تغییر نظامه، إذ لم یصدر عن الرئیس أوباما وأرکان إدارته حتى الآن أی دعوة صریحة لا لبس فیها إلى تنحی مبارک فورا، وهذا هو المطلب الرئیسی غیر القابل للتفاوض للثورة الشعبیة المصریة، وبالتالی فإن خلاصة الموقف الأمریکی تتناقض تماما مع قول أوباما "إننا نرید أن نرى لحظة الاضطراب هذه تتحول إلى لحظة فرصة" وتشیر فقط إلى مسعى أمریکی لکسب المزید من الوقت من أجل الالتفاف على الثورة الشعبیة المصریة تمهیدا لإجهاضها.
وتواجه الولایات المتحدة الیوم اختبارا تاریخیا یتعین علیها فیه أن تجد صیغة لسیاستها الخارجیة فی الوطن العربی توفق بین مصالحها الحیویة الإستراتیجیة التی کانت تعتمد فی ضمانها على دعم أنظمة غیر دیمقراطیة وبین قیمها الدیمقراطیة التی کانت حتى الآن تسوقها فی الإقلیم لفظیا فحسب کأداة ضغط تهدد بها الأنظمة الحلیفة لها لابتزاز المزید من انصیاعها للإملاءات الأمریکیة.
ویمکن أن یدخل الرئیس باراک أوباما التاریخ باعتباره أول رئیس أمریکی ینقلب على هذه السیاسة الخارجیة التاریخیة لبلاده فی المنطقة، لکن محاولات إدارته حتى الآن تنصب على محاولة سیثبت مقبل الأیام أنها فاشلة للتوفیق بین نظام مرفوض وطنیا یطالب الشعب بتغییره وبین ثورة شعبیة من أجل تغییره، بمطالبته لهذا النظام بإصلاحات دیمقراطیة فشل فی الاستجابة حتى لمظاهرها الشکلیة طوال ثلاثین عاما من حکمه، فالإصلاحات ینفذها مصلحون لا محافظون، والدیمقراطیة یطبقها دیمقراطیون لا مستبدون.
والمفارقة أنه "لا یوجد مکان یسمع فیه صوت الخوف من الدیمقراطیة المصریة الآن أعلى مما یسمع فی وسائل الإعلام الأمریکیة. وهذا الخوف لیس مقتصرا على الیمین الأمریکی"، فکاتب العمود الأمریکی "اللیبرالی" فی الواشنطن بوست، ریشارد کوهین، على سبیل المثال "یعبر عن مخاوفه من أن یعرض نفوذ الإسلامیین فی أی دیمقراطیة مصریة إسرائیل للخطر"، لأن "المشکلة" فی رأی کل أمثال هؤلاء النقاد تکمن فی أن "المصریین أمامهم خیار واحد فقط: إما مبارک وإما الإسلامیین. وهذا ببساطة خطأ. فالطموحات المصریة للدیمقراطیة کانت تجیش لفترة طالت أکثر من أن تستطیع القوى الخارجیة سد الطریق أمام الوصول إلیها باللعب على المخاوف نفسها التی ساعدت فی إبقاء مستبد فی السلطة طوال ثلاثین سنة"، کما کتب مؤخرا جیفری موک المتخصص فی مصر ورئیس الشرق الأوسط فی منظمة العفو الدولیة- الولایات المتحدة الأمریکیة.
وإذا کان جیفری موک یعتبر المکاسب التی حققتها المرأة المصریة وکذلک وجود الأقلیة المسیحیة الکبیرة عوامل واقعیة فی المعادلة الداخلیة المصریة تحد من قوة الإخوان المسلمین وتدحض التهویل المبالغ فیه للمخاوف الغربیة من قوتهم السیاسیة، فإن ما قاله عن أنهم قد "نبذوا علنا العنف وتعهدوا بالعمل ضمن النظام السیاسی" یؤکد ما قاله السیاسی والمفکر الإسلامی التونسی زعیم حرکة النهضة الإسلامیة، راشد الغنوشی، فی مقابلة له مع الـ"فایننشال تامز" البریطانیة فی الثامن عشر من الشهر الماضی موضحا حدوث تغییر فی الفکر السیاسی للإسلام السیاسی یبدد تماما مثل تلک المخاوف: "فالدیمقراطیة یجب ألا تقصی الشیوعیین.. فلیس أخلاقیا بالنسبة لنا أن نطالب حکومة علمانیة بقبولنا ثم نقضی علیها بمجرد وصولنا إلى السلطة .. فعندما کانت النهضة فی تونس لم یکن هناک أی وجود للقاعدة"، مما یذکر بأن القاعدة دخلت الجزائر بعد حظر الجبهة الإسلامیة للإنقاذ، وأن وجود جبهة العمل الإسلامی فی الأردن لم یترک للقاعدة إلا أن تکون قوة خارجیة، بینما فتح حظر الإخوان المسلمین فی مصر الطریق أمام الإسلامیین المتطرفین، ویبدو من شبه المؤکد أن حرمان حرکة المقاومة الإسلامیة "حماس" من نصرها الانتخابی فی فلسطین کان سیقود إلى بدیل إسلامی متطرف لها لو لم یقد الانقسام الفلسطینی إلى سیطرتها على قطاع غزة، إلخ.
إن الدعوة التی وجهها نائب الرئیس المصری عمر سلیمان إلى الإخوان المسلمین للمشارکة فی "حوار وطنی" بالرغم من کون حرکتهم محظورة یشیر إلى إدراک مصری متأخر للخطأ التاریخی بحظرها أکثر مما یشیر إلى اعتراف واقعی بدورها فی الانتفاضة الشعبیة، لکن الغمامة الإسرائیلیة السوداء المشدودة بإحکام على أعین صانع القرار الأمریکی ما زالت تعمیه عن رؤیة الحقیقة على الأرض العربیة للتوصل إلى استنتاج مماثل یقود إلى إنعاطفة تاریخیة فی السیاسة الخارجیة الأمریکیة الإقلیمیة تنهی مرة واحدة وإلى الأبد الربط بین المصالح الحیویة الأمریکیة وبین العامل الإسرائیلی الذی حکم هذه السیاسة لفترة طالت اکثر من اللازم، بنتائج مأساویة على المصالح العربیة والأمریکیة على حد سواء، کشرط مسبق لشراکة عربیة- أمریکیة ندیة.
إن استمرار التذرع الأمریکی مرة بـ"الخطر الإسلامی" وأخرى بـ"الخطر الإیرانی" وقبلهما بالخطر القومی العربی والخطر الشیوعی قد أصبح حجة واهیة متهافتة لا تقنع أحدا فی المنطقة، وهی حجة تؤکد فقط أن واشنطن ما زالت مصرة على أن تکون وریثة للاستعمار الأوروبی القدیم ولا تسعى حقا إلى شراکة عربیة- أمریکیة ندیة، وبالتالی فإن أی تغییر فی سیاستها الخارجیة یدعم التحول الدیمقراطی العربی سوف یظل أمنیة عربیة ودعایة أمریکیة مضللة لفترة طویلة مقبلة، لأنها تدرک تماما بأن مصادرة الحریات الدیمقراطیة والإرادة الشعبیة العربیة کانت وسوف تظل شرطا مسبقا لتمریر معاهدات واتفاقیات "سلام" غیر عادلة مع دولة الاحتلال الإسرائیلی یتم فرضها على الأمة وشعوبها، لکنها لا تدرک کما یبدو حتى الآن أن هذه الاتفاقیات والمعاهدات سوف تظل فی مهب الریح بانتظار عاصفة دیمقراطیة کتلک التی تجتاح مصر وتونس وغیرهما الیوم.
ن/25