دولة فی الأمم المتحدة.. لا وطن بلا أرض ولا دولة بلا وطن!
عبد اللطیف مهنا
لیس فی التراجیدیا الفلسطینیة المستمرة، لا سیما فی فصولها الراهنة، من مشهد هو أقل مرارة من سابقه أو مما قد یلیه. والمسارات التصفویة المتوالیة للقضیة الفلسطینیة، على تعدد عناوینها، تزخر بمفارقاتها وتنضح بلا معقولاتها، بید أن الأطراف المنهمکة فی عبثیتها الکارثیة،
وکل من موقعه، لا تنفک المجمعة على مواصلة أدوارها المرسومة لها فی هذه المسارات، بحیث أصبح البحث عن سبل الاستمراریة فی لعبها لهذه الأدوار وکأنما هو بدیلها المرتجى عن غایتها المعلنة، حیث المؤکد الوحید هنا، لیس سوى الهدف الذی بات ینجز على مدار دقات الساعة التهویدیة المتسارعة والسائرة بلا موانع أو عوائق، هو عملیة التصفیة، أو هذه الحرکة النشطة التی وظفت ما سبق واستغلت زمنه لصالحها.
آخر المفارقات، تهدیدان صدرا عن کلٍ من طرفیها المباشرین، السلطة الفلسطینیة فی رام الله وسلطة کیان الاحتلال فی القدس المحتلة، والتهدیدان یجمعان أیضًا على التلویح بأمر واحد، وهو حل الأولى، بمعنى إلغاء اتفاقیة أوسلو التی تعد هذه السلطة الوهمیة من مخلفات افرازاتها البائسة... ما الذی دفع إلى اتحافنا بمثل هذه المفارقة؟!
من جانبها، یئست جماعة الخیار التسووی الأوسلوی فی رام الله، من جدوى حصادها بعد ثمانیة عشر عامًا عجافًا اضاعت فیها البوصلة والأرض، وأثبت لها واقعها فشلها فی المراهنة على أریحیة وسیطها غیر المعروف بنزاهته، الولایات المتحدة، وحکمها المشهود له بانحیازه الدائم لعدوها.. ونستطرد، وخذلان ما تدعى الرباعیة لها، وفقدانها لراعیها وداعمها الإقلیمی بعد ثورة 25 یولیو المصریة، وتکرار رؤیتها للعین الحمراء من قبل من یدعون بالمانحین، أو الأوروبیین، کلما خطر ببالها التفوه بکلمة لا، ولو خافته، لما یملی علیها... عندما أوصلت نفسه إلى مثل هذا الحال، قررت، بعد إضاعة ثمانیة عشر عامًا جرت لصالح التهوید، أن تتوجه للأمم المتحدة.. ما الذی تریده من هذه الأمم المتحدة، التی سبق وأن خصت الفلسطینیین بأکداس من قرارات دفنها غبار الزمن ولم ینفذ واحد منها؟!
هدفها المنشود والمعلن هو االحصول على الاعتراف الأممی بدولة فلسطینیة مفترضة على المحتل من فلسطین بعد العام 1967.. لا بأس، لکن علینا هنا أن نتذکر، أن ما کان من هذه المنظمة الدولیة من الدول التی تعترف بمنظمة التحریر الفلسطینیة قبل مسیرة أوسلو التصفویة هو أکثر من تلک التی تعترف بإسرائیل. وأن إعلان الدول الفلسطینیة، أو ما سمی بإعلان الاستقلال، کان قد اتخذ فی مؤتمر قصر الصنوبر فی الجزائر فی العام 1988. وأنه، على الأرض، قد أصبحت جرافات التهوید الزاحفة تقترب رویدًا رویدا من مقر المقاطعة، بعد أن التهمت أغلب بقایا ما لم یهود من الضفة وشددت خناقها على التجمعات الفلسطینیة الأشبه بالمعازل والمعتقلات. وأن الدولة المستجداة أممیًّا لن تزد على نص قرارا یضاف إلى متراکم القرارات الصادرة عن هذه الهیمنة الدولیة التی ألحقت هذه الحقبة بوزارة الخارجیة الأمریکیة.. بمعنى، أن هذا الاعتراف، إن أوفت سلطة رام الله "ناقلة الاستقلال"، وفق توصیفات صائب عریقات کبیر مفاوضیها لها، بما تقول إنها قد أزمعت علیه، واعترفت الهیئة الدولیة بما تناشدها الاعتراف به، سیکون اعترافًا رمزیًّا، أی ما لن یجدی فی إیقاف هدیر تلک الجرافات، أو یدفع "الرأی العام الدولی"، أو "المجتمع الدولی"، أو سائر مثل هذه المسمیات للغرب عراب النکبة الفلسطینیة، وربیب کیان اغتصاب فلسطین وراعیه ومتعهد وجوده، إلى تغییر مواقفه المعروفة من الاحتلال، والتی جعلت من إسرائیله فی حکم المعصومة من المساءلة وفوق الملامة ویجوز لها ما لا یجوز لسواها من المعتدین على القوانین والاعراف والمواثیق الدولیة والقیم الإنسانیة... والآن، عملیًّا، وإذا ما مضت السلطة فیما أزمعت علیه، فما هی سبلها إلى ذلک؟
إنه إما التوجه إلى مجلس الأمن، حیث الفیتو الأمریکی فی الانتظار، أو إلى الجمعیة العمومیة، حیث جل المرتجى منها هو الحصول على ضویة مراقب، أی ما لا یسمن ولا یغنی ولا یضیف... وحتى لو تم هنا الاعلان، فلسوف یفرغ من مضمونه ولن یصادف حظًا بعدها فی مجلس الأمن الأمریکی.. وأخیرًا، تقدیم مشروع لکل من المجلس والجمعیة، یقضی بتحدید أسس مرجعیة ما یسمى "عملیة السلام" کشرط لاستئناف المفاوضات، بمعنى العودة إلى ذات الدوامة... هذا إذا ما شاء الأمریکان مجرد بحث مثل هذا المشروع فی هیئتهم الدولیة!
والسؤال هنا هو: هل السلطة جادة فعلاً فیما تهدد به؟ ما مدى صدقیة وعید صائب عریقات برمی "المفاتیح فی وجوههم"، والمقصود هنا هم الأمریکان، الذین توعدوا من جانبهم باستخدام الفیتو، والمانحین الذین لمحوا إلى احتمال أن یغلو الید لیجوعوا فیالق مناضلی الأمس المتقاعدین وراء قضبان القفص الأوسلوی؟
یجیبنا سلفًا أبو مازن رئیس السلطة، عبر تأکیده القاطع بأن "خیاره الأول والثانی والثالث هو المفاوضات"، وأن "الأمم المتحدة ومجلس الأمن لیسا بدیلاً للمفاوضات"، و"لن نتصادم ولا نرید أن نتصادم مع أمریکا، ولکن نرید أن ننسق الموقف معهم"... وإذا کان الأمر هو کذلک، فما الذی نتوقعه سوى ولوج ملهاة تدویل للمسألة، أو متاهة تصفویة جدیدة تبتلع فیها تکتیکات التسوویین ما کان یفترض من استراتیجیات نضالیة مقاومة؟!
وبالنسبة لتهدید السلطة بحل نفسها، فالمضحک المبکی أن هذه السلطة تحت الاحتلال هی فی حکم المحلولة عملیًّا باعتراف اصحابها انفسهم، أما بالنسبة للفلسطینیین وقضیتهم وما جرته علیهم وعلیها من وبال، فیا لیتها، وهی التی تحولت أداة أمنیة فی خدمة المحتلین، قد حلت نفسها منذ أول یوم أقاموها فیه، لأنها کانت بامتیاز شاهد زور على ضیاع وطن، وإن لم تکف یومًا عن المطالبة بدولة، فی حین أن الشعب الفلسطینی یناضل لاستعادة أرض یقیم علیها دولة لا دولة فرطت بأرض ولا تجد منها ما قد تقام علیه.
بقی الشق الثانی من المفارقة... الشق الإسرائیلی. وفق هآرتس، فإن حکومة نتنیاهو تدرس مسألة الغاء اتفاقیة أوسلو إذا ما مضت رام الله باتجاه الإعلان الأممی لدولتها المفترضة.. هل هؤلاء أیضًا، بالمقابل، هم جادون فی تهدیدهم هذا؟!
یقول عریقات: "تستطیع إسرائیل أن تبقی هذا الوضع کما هو علیه ألف عام مقبل"، بمعنى، وحیث هذا هو الأنسب لها، فأنها لیست فی وارد سماع التوسلات الأوسلویة، أو عبارات الترجی الأمریکیة غیر الجدیة، ولا تزعجها محاولات التمایز النسبی اللفظی المنافق حیال الأمرمن قبل الأوروبیین... ونضیف، وما دام هذا حالها، فهل من المعقول أن تقدم کقوة غازیة على حل هکذا سلطة بإلغاء اتفاقیة أفرزتها وکان إبرامها قد حقق لها کمحتلة کل هذا الذی سبق وأن اشرنا الیه؟!!
بقی أن نقول، إن الأخطر هو، إنه، إذا ما افترضنا وأن اعتُرف بهذه الدولة الوهمیة، والتی خیارها، کما یؤکد ابومازن، "الأول والثانی والثالث هو التفاوض"، فإن مثل هذا التفاوض سوف یتم فی هذه الحالة بین دولة ودولة، الأمر الذی یعنی أن تنازلاتها التی هی فی حکم المبرم سوف تُشرعن باطل ضیاع فلسطین.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS