أیلول... إخفاق أسموه استحقاقا
إبراهیم حمّامی
دأبت السلطة الفلسطینیة وعلى مدار سنوات التفاوض العقیمة، وعند کل اخفاق ومنعطف، على استحداث ما تسمیه استحقاقات، دائماً ما تکون مستقبلیة، تنفخ فیها الروح إعلامیاً، تکثر معها التصریحات واللقاءات، ثم تکون النتیجة لا شیء.
لا یشذّ ما یسمونه استحقاق أیلول عن تلک القاعدة، وهی لیست المرة الأولى التی تعلن أو تهدد فیها قیادة التفاوض بإعلان الدولة، وعلى سبیل المثال أعلن عرفات عام 1988 قیام دولة فلسطین لیصبح رئیساً لها، ومع دخول أوسلو حیز التنفیذ وفشلها بعد سنوات، هدد عرفات فی العام 1999 بإعلان الدولة الفلسطینیة – المعلنة أصلاً والتی کان یرأسها – باعتبار ذلک "استحقاقاً" مع نهایة الفترة الانتقالیة المنصوص علیها فی اتفاق أوسلو، ولم تُعلن تلک الدولة.
أما محمود عبّاس والذی ورث سیاسة الاستحقاقات من سلفه، فقد شهدنا فی عهده استحقاقات رئاسیة وتشریعیة واستحقاق أنابولیس، ومن بعدها مفاوضات التقریب واللجوء لمجلس الأمن کاستحقاق عربی بدایة هذا العام، وکلها کان مصیرها کسابقاتها، حتى وصلنا إلى "استحقاق أیلول" الذی لا قبله ولا بعده للحصول على عضویة دائمة فی الأمم المتحدة.واختیار تعبیر "استحقاق" مقصود للإیحاء بأنه حق لا جدال فیه، حان وقته ووقت المطالبة به، وبالتالی فإن أی معترض علیه یقف تلقائیاً فی خانة الأعداء، وهو أسلوب لإسکات أی صوت معارض باعتباره یتنازل عن "الاستحقاق" الذی رسمه رئیس السلطة، حتى وان کان استحقاقاً وهمیاً أو عبثیاً أو کارثیاً کما هو الحال مع ما یسمونه الیوم استحقاق أیلول، والذی ابتدعوه للخروج من مأزق الاخفاق التفاوضی الفظیع، لا للحصول على اعتراف هو موجود بالأساس ولکن لتحسین فرص المفاوضات کما صرح عبّاس، والذی حدد النتیجة النهائیة فی حالتی النجاح والفشل، ألا وهی العودة للمفاوضات!التفرد والتخبط بالقرار الفلسطینی
کلام اللیل یمحوه النهار...
هذا هو حال قیادة السلطة التی تتخذ من المواقف ما یشبه أغلظ الأیمان لتتراجع عنها لاحقاً، کما حدث مثلاً فی عدم العودة للمفاوضات إلا بوقف الاستیطان، لکن عباس وفریقه عاد إلى واشنطن العام الماضی لیجتمع بنتنیاهو ومن بعدها فی لقاءات متککررة – لم تتوقف أصلاً – دون وقف الاستیطان ولا حتى جزئیاً ولفترة محددة کما اقترحت واشنطن، وکانت منظمة التحریر ولجنتها المرکزیة أداة تمریر کل القرارات ونقیضها وبحسب الطلب والرغبة.
لا نعرف تحدیداً متى وکیف أصبح هدف الشعب الفلسطینی هو دولة بأی ثمن، دولة مسخ مقابل التنازل عن حقوق الشعب الفلسطینی الأخرى، ولا تسجل ذاکرة التاریخ أو ذاکرتنا أن الشعب الفلسطینی استفتی یوماً إن کان هدفه هو دولة مقابل التنازل عن باقی فلسطین مثلاً، لکن ما نعرفه أن سیاسة الاستفراد بالقرار هی سیاسة موروثة فی منظمة التحریر الفلسطینیة ومن بعدها السلطة الفلسطینیة، والتی خرقت وتخرق حتى ثوابتها المعلنة والمکتوبة کل یوم.ترفع الفصائل الفلسطینیة عقیرتها بالصراخ ضد التفرد بالقرارات وبمصیر ومستقبل الشعب الفلسطینی، إلا أنها تقف عند حدود ذلک، فصائل منظمة التحریر خوفاً من انقطاع میزانیتها الشهریة، وفصائل الممانعة حرصاً على مصالحة وهمیة لن تکون ویستغلها عبّاس وفریقه فقط لتمریر سیاساته.
لقد عانى وما زال شعبنا یعانی من مآسی التفرد بالقرار، والوصول دائماً لنتائج کارثیة على مسیرة قضیته، رغم کل النصائح والفتاوى القانونیة التی تحاول ثنی فریق التفاوض عن الاستمرار فی عبثیته.وبالرغم من محاولة تصویر هذا "الاستحقاق" على أنه إنجاز کبیر، تشیر الدراسات والآراء القانونیة، إلى أنّ احتمال تحقق النتائج المنشودة ضعیف جداً، بل إنّ هذه المبادرة تحمل فی طیاتها مخاطر عدّة، قد تکون نتائجها على الفلسطینیین أفدح من نتائج اتفاقیة أوسلو.
مکاسب ومخاطر
حتى فیما أسموه استحقاق أیلول، لم یتم تدارس الأمر أو تحلیل نتائج التوجه للأمم المتحدة، واعتُمد فقط على دغدغة العواطف والمشاعر، والتجهیز لاحتفالات الرقص والطبل، وإعلان الانتصار مسبقاً، والحشد الاعلامی ومعه الاعلان الیومی وعلى طریقة العدادات عن عدد الدول التی ستؤید القرار فی الجمعیة العمومیة.یحاول الفریق المفاوض سرد المکاسب المحتملة من خطوته، وبعیداً عن الشعارات حول المقعد ورفع العلم وغیرها، فإن المکاسب من وجهة نظر عرّاب تلک الخطوة محمود عباس، فأنّ خطة إعلان الدولة لیست من باب الخدعة أو المناورة، أو کما کتب فی مقالته فی صحیفة نیویورک تایمز، هی لیست "المسرح السیاسی"، ومن وجهة نظره، سیؤدی إعلان الدولة والاعتراف الأممی بها، إلى تدویل الصراع قانونیاً وسیاسیاً، وسیفتح الطریق لملاحقة إسرائیل فی الأمم المتحدة والمحافل الدولیة ومحکمة العدل الدولیة.
على الرغم من القیمة السیاسیّة الرمزیّة الهامّة التی ینطوی علیها انتساب فلسطین لعضویة الأمم المتحدة والتوصیة بالاعتراف بالإعلان عن إقامة الدولة الفلسطینیة فی الجمعیة العامة، فإن هذین الأمرین لا یفرزان أی آثارٍ قانونیةٍ بحد ذاتهما. فالاعتراف بإقامة الدولة وعضویتها فی منظومة الأمم المتحدة مسألتان متباینتان، ولا تتضمن إحداهما الأخرى – ولا تشکّل عضویة الدولة فی الأمم المتحدة شرطًا لازمًا لإقامة الدولة ولا تملک الجمعیة العامة الصلاحیات التی تخوّلها الإعلان عن إقامة دولةٍ ما.
لا یطالب الفلسطینیون، فی سیاق مسعاهم إلى الانضمام لعضویة الأمم المتحدة، بحقّهم فی إقامة دولتهم المستقلة، بل إنهم یطالبون بالحقوق الناشئة عن وضعهم کدولةٍ قائمة، ولا یطالب الفلسطینیون بحقّهم فی السیادة على إقلیمهم أو استقلالهم، وإنما یطالبون بالوسائل التی تمکّنهم من ممارسة السیادة والاستقلال على أرض الواقع. یبدو أنّ التطور الوحید الذی یمکن أن یطرأ على الصعید القانونی، نتیجة لإعلان الدولة، هو انضمامها إلى اتفاقیة روما المتعلقة بإنشاء المحکمة الجنائیة الدولیة، بهدف مقاضاة مجرمی الحرب الإسرائیلیین. ومع أنّ تطوّر کهذا هو تطور إیجابی، إلا أنّه لا یضمن مقاضاة مجرمی الحرب، إذ إنّ کون فلسطین دولة، وانضمامها إلى الاتفاقیة، سیزیل أحد المعوقات الرئیسیة، ولکن ستبقى معوقات أخرى کثیرة، وعلى أی حال، ستمر سنوات عدّة، قبل أن یُفضی أی تحقیق إلى اعتقال أو نتائج.
فحتى فی هذا المجال، إعلان الدولة لن یکون له التأثیر الکبیر. أما بالنسبة إلى المکاسب السیاسیة، فلا یبدو أنّها ستکون کبیرة. لن یؤثر التغییر الاسمی من «سلطة حکم ذاتی» إلى «دولة» على الواقع المیدانی أو السیاسی. لیس من المتوقع أن یؤدی إعلان الدولة إلى انسحاب إسرائیلی، أو تسلیم المعابر الحدودیة إلى الفلسطینیین، أو سیطرة الدولة على الموارد الطبیعیة، أو المجال الجوی، أو الصادرات والواردات، أو ضمان حریة الحرکة. فمیدانیاً، سیبقى الأمر على ما هو علیه، وسیضطر محمود عباس إلى استصدار تصریح مرور، کلما أراد الخروج من رام الله.
ودولیاً، لن تتأثر صورة إسرائیل کثیراً، فقد احتلت إسرائیل مناطق تابعة لسیادة دول أخرى، لفترات طویلة، کاحتلالها لسیناء وجنوب لبنان، بل ضمّت مناطق محتلة إلى سیادتها، کما هی الحال فی الجولان، ولم تکن لتلک الافعال أیّ تداعیات باستثناء الاستنکار والشجب".
لکن عند الحدیث عن المخاطر، والتی تناولها الکثیرون ومنهم قیادات فصائلیة، فهی کثیرة وخطیرة وکارثیة، أوضح بعضها دراسات قانونیة طلبها الفریق المفاوض نفسه – الوثیقة القانونیة التی أعدها خبیر القانون البروفیسور جای جودوین جیل، عن جملة المخاطر الکبیرة التی تشکلها مبادرة السلطة الفلسطینیة للتوجه إلى الأمم المتحدة – وکذلک دراسات وتحلیلات لا تخفى على متابع.
ویمکن تلخیص أهم تلک المخاطر فی:
· التنازل عملیاً وعالمیاً عن 78% من فلسطین التاریخیة
· إسقاط حق العودة عملیاً، فالدولة المفترضة هی على حدود العام 1967، وسیطرح السؤال التالی فی کل مرة تحاول الودلة الدفاع عن حق اللاجئین: إن کانت دولتکم هی دولة الفلسطینیین فلماذا لا یعود الفلسطینیون إلیها؟. سیحاول البعض القول بأن منظمة التحریر الفلسطینیة ستکون المدافع عن حق الللاجئین، متناسین أن منظمة التحریر نفسه ستکون فی مهب الریح فور قبول دولة فلسطین عضواً، ناهیک أن محاولة الحدیث عن العودة إلى الدیار الأصلیة سیعتبر تدخلاً فی شؤون دولة أخرى.
· سیتحول الفلسطینیون خارج حدود الدولة إلى مغتربین مقیمین فی دولة شقیقة أو صدیقة، ویحملون جوازات سفر "فلسطینیة" وبلإقامات، وبشکل تلقائی تسقط ولایة "الأونروا" وصفة اللاجئ عنهم، وهو ما تطمح إلیه إسرائیل للتخلص من حق العودة.
· منظمة التحریر الفلسطینیة والتی تتمتع بصفة عضو مراقب فی الأمم المتحدة ستفقد هذه الصفة لصالح تمثیل أقل للشعب الفلسطینی وحقوقه، وستؤدی تلک الخطوة إلى نقل تمثیل الشعب الفلسطینی فی الأمم المتحدة من منظمة التحریر الفلسطینیة إلى دولة فلسطین، ما یقود إلى إلغاء الوضعیة القانونیة التی تتمتع بها منظمة التحریر فی الأمم المتحدة منذ عام 1975. وأضاف أن ذلک سیقود إلى وضع لن تکون فیه مؤسسة قادرة على تمثیل الشعب الفلسطینی بأکمله فی الأمم المتحدة والمؤسسات الدولیة المتصلة بها
· حتى بالنسبة لمن یؤمن بالمفاوضات، فإن اسقاط ورقة الدولة الواحدة وبغض النظر عن قناعاتنا یضعف موقف المفاوض الفلسطینی الذی لا یملک أیة أوراق قوة، لأن خطوة ایلول ستسقط خیار الدولة الواحدة الذی یعتبر فی رأی الباحثین أهم الأوراق التفاوضیة فی جعبة المفاوض الفلسطینی، حیث أکد ان خیار الدولة الواحدة أکثر ما یرعب الجانب الصهیونی، ویعتبر آخر سلاح فی جعبة المفاوض الفلسطینی فی حال تعنت الطرف الآخر
· سیفتح اتخاذ مثل هذه الخطوة الباب أمام تنفیذ خطة شارون الأحادیة، بحجة أن الجانب الفلسطینی خرق ومن طرف واحد اتفاقیة أوسلو، مع قناعتنا أن الاحتلال لا یحتاج لأعذار فی ذلک، لکنه سیملک حجة قانونیة
· سیتحول الصراع مع الاحتلال من صراع شعب وأرض وحقوق ومقدسات وصراع لإنهاء الاحتلال، إلى صراع على الحدود بین دولتین
· سیمهد الاعلان غیر المدروس تهدیداً مباشراً لأهلنا فی أراضی العام 1948، وسیکون بمثابة نقطة الانطلاق لتطبیق خطة اسرائیل بترحیلهم وایقاء کیانهم دولة للیهود
· سیکون مصیر القدس والأراضی الواقعة بین خطی التقسیم و"الأخضر" فی مهب الریح
"استحقاق" محکوم بالفشل
المفاوض الفلسطینی یعرف نتیجة توجهه مسبقاً، وبأن لن یحصل على دولة کاملة العضویة، لأن شروط الحصول على عضویة الأمم المتحدة هی:میثاق الأمم المتحدة الذی یحدد معاییر قبول عضویة الدول ضمن المنظمة الدولیة یحدد آلیة هذا الإجراء الذی ینص على التالی:
1. على الدولة الراغبة بعضویة الأمم المتحدة تقدیم طلب خطی بهذا الخصوص للأمانة العامة لسکرتاریة المنظمة
2. یحول الطلب لمجلس الأمن الذی یتمتع بصلاحیة قبول أو رفض الطلب
3. تزکیة قبول الطلب فی المجلس تتطلب موافقة 9 دول اعضاء من اصل 15 دولة عضوة فی المجلس بشرط عدم إعتراض ای من الدول الخمسة دائمة العضویة (الولایات المتحدة، بریطانیا، فرنسا، روسیا الفدرالیة، الصین)
4. إذا تم إقرار قبول الطلب من المجلس حسب الألیة اعلاه یتم تحویل الطلب للجمعیة العامة التی یتعین علیها التصویت على قبوله بأغلبیة الثلثینوإلیکم الملاحظات التالیة:حتى الآن لم تقدم السلطة طلباً خطیاً للسکرتاریة العامة ولا لمجلس الأمن حسب الألیة اعلاه ولو تم تقدیم هذا الطلب إفتراضاً فلن یتم تحویله للجمعیة العامة لأن عضواً دائماً فی مجلس الأمن على الأقل (الولایات المتحدة) صرحت بوضوح عبر رئیسها ووزیرة خارجیتها أنهم سیرفضوه إن قدم لهم.الذی یملک صلاحیة الدعوة لإجتماع الجمعیة العامة للأمم المتحدة هو السکرتیر العام للمنظمة وهو ملزم بمیثاق الأمم المتحدة ولا یستطیع مخالفته ولهذا لا یستطیع الدعوة لإجتماع لمناقشة عضویة فلسطین قبل الحصول على تزکیة مجلس الأمن حسب الآلیة اعلاه.
ولذلک وبحسب الورقة التی أعدتها مؤسسة الحق، یُتوقَّع أن یؤدّی الطریق المسدود الذی یصل إلیه مجلس الأمن فی هذا الشأن إلى عوْق الإجراءات ‘الکلاسیکیة’ التی تُعمِلها الأمم المتحدة لقبول الدول فی عضویتها.
ومع ذلک، تستطیع الجمعیة العامة بذل بعض المحاولات التی تمکِّنها من التصرف على الرغم من التوصیة السلبیة التی یخرج بها مجلس الأمن، بما یشمله ذلک من المراسلات التی تجری بین هذین الجهازین والتی یمکن الشروع فیها بسبب التوصیة السلبیة التی صدرت عن المجلس.
ویقترح البعض، فی إطار الردّ على هذه التوصیة السلبیة، إمکانیة توظیف الصلاحیات التی یقرّرها قرار "متّحدون من أجل السلام" الصادر عن الجمعیة العامة (والذی یحمل رقم 377) بغیة الالتفاف على الطریق المسدود الذی یصل إلیه مجلس الأمن ورفع مسألة قبول فلسطین فی عضویة الأمم المتحدة إلى الجمعیة العامة.
وبما أنه من غیر المرجَّح أن یُنظَر إلى الامتناع عن قبول فلسطین فی عضویة الأمم المتحدة على أنه یشکّل ‘تهدیدًا للسِّلم والأمن الدولیین’، فمن غیر المحتمل إنفاذ الصلاحیات التی یشملها القرار المذکور. فقد نظرت محکمة العدل الدولیة، فی فتواها التی أصدرتها فی العام 1950 فی قضیة قبول دولةٍ فی الأمم المتحدة فی أهلیة الجمعیة العامة فی سیاق الإجراءات التی تُعملها الأمم المتحدة فی قبول الدول فی عضویتها، وتوصلت إلى نتیجةٍ مفادها أن توصیة مجلس الأمن تشکّل شرطًا مسبقًا لتصویت الجمعیة العامة على مسألة العضویة، وهی شرطٌ مسبقٌ لقبول دولة فی عضویة المنظمة کذلک. ومن الناحیة العملیة، فإن أقصى ما تستطیع فلسطین إنجازه من خلال الإجراءات التی تقرّرها هیئة الأمم المتحدة لقبول الدول الأعضاء فیها، فی ضوء تصویت الولایات المتحدة الأمریکیة المحتمل بحق النقض (الفیتو) فی مجلس الأمن الدولی، یتمثّل فی استصدار قرارٍ من الجمعیة العامة ب"التوصیة" بالاعتراف بإقامة دولة فلسطین واستقلالها، و/أو منح فلسطین وضع ‘الدولة المراقبة’ فی الأمم المتحدة.وهذا مما یثیر تساؤلات عده حول إصرار القیادة الفلسطینیة على التوجه للامم المتحدة رغم کل التحذیرات التی تمس أهم مکونات القضیة الفلسطینیة، ویدفعنا إلى التساؤل حول جدیة الفریق المفاوض فی خطوته وفیما إذا کان الأمر لا یتعدى کونه محاولة لفتح باب التفاوض من جدید، أو أن المسألة تتعدى ذلک بما یحمله هذه التعدی من مخاطر تتعلق بطمس هویة منظمة التحریر الفلسطینیة وإلغاء حق العودة وغیرها من المخاطر التی تطعن الحرکة الوطنیة برمتها فی صمیم فؤادها وتخرجها عن مسارها.
فی صف الأعداء
ولأنه "استحقاق" فإن معارضته برأیهم تعنی الالتقاء مع نتنیاهو ولیبرمان فی معاداة "خیارات" الشعب الفلسطینی، لیؤکدوا على الموقف الرافض للاحتلال لقیام دولة فلسطینیة. لکن الوقائع تشیر أن الاحتلال لا یعارض قیام دولة فلسطینیة بل یسعى لذلک جاهداً، لیس فقط بسبب ما ذکرناه سابقاً عن المخاطر التی تصب فی مصلحة الاحتلال، لکن أیضاً لأنه هدف استراتیجی معلن وبوضوح من کافة الأطراف الاسرائیلیة، وإن کان بشروطهم ورؤیتهم.
وما المعارضة الصوتیة والاعلامیة من قبل قادة الاحتلال إلا خدعة الهدف منها خداع الجانب الفلسطینی من جهة ومن جهة أخرى الحصول على مکاسب سیاسیة وقانونیة تتمثل فی اخذ الشرعیة اللازمة لفرض حل من جانب واحد، یتمثل فی إعطاء الفلسطینیین دولة داخل الجدار الفاصل.
أما فریق المفاوضات فمن مصلحته إظهار الأمر وکأنه معرکة ضد إرادة المحتل، لیصور لاحقاً حصوله على دولة – ان حدث – بأنه انجاز تاریخی وانتزاع من فم الأسد، لیقیم الاحتفالات والسهرات بهذا الانجاز العظیم لیبرر فشله واخفاقه، حتى وان کانت الخطوة هی فی صالح الاحتلال ولمصلحته، رغم ما یُمارس من خداع وذر للرماد فی العیون.
یقول مازن المصری: وقد یسأل السائل: إذا کان إعلان الدولة قد یؤدی إلى هذه النتائج السلبیة، فلماذا ترفضه إسرائیل؟ یمکن تفسیر الموقف الإسرائیلی بمحاولة للتقلیل من حالة «عدم الیقین» (uncertainty). فمع أنّ إسرائیل تتمتع بتفوق عسکری وسیاسی، إلا أنّ سیاستها ترتکز على تجنب المخاطرة والتشبث بالأمر الراهن الذی تستطیع هی تغییره تبعاً لمصالحها، بدون إثارة الکثیر من الضجة الإعلامیة.
فالوضع الحالی فی الضفة الغربیة هو الأمثل بالنسبة إلى إسرائیل، الأمن مستتب بتمویل فلسطینی - عربی - دولی، والضفة الغربیة تحت سیطرتها شبه المطلقة، وهی مفتوحة کسوق للبضائع الإسرائیلیة، فلم التغییر إذاً؟ الأفضل من ناحیة إسرائیل هو الوصول إلى دویلة فلسطینیة (أو کیان سیاسی یُسمى دولة)، بتصمیم وقیاس تملیه إسرائیل، ویقبل به الفلسطینیون، تُظهره للعالم کتنازل کبیر، ویضع أمام الفلسطینیین التزامات کبیرة.
المسألة بالنسبة إلى إسرائیل إذاً هی مسألة تکالیف العملیة، لا مبدأ الدولة بحد ذاته. لقد باتت الدولة الفلسطینیة المحدودة السیادة، على جزء من أراضی الضفة الغربیة وغزة، موضع الإجماع الصهیونی، بل إنّها مصلحة إسرائیلیة، إذ ستحل هذه الدولة «مشکلة» إسرائیل الدیموغرافیة، من ناحیة إنهاء السیطرة المباشرة على الفلسطینیین، وفی الوقت نفسه، تحل بعض التناقضات الداخلیة لتعریف الدولة کدولة یهودیة، وتطبیع مکانتها السیاسیة والدولیة، ومنحها المزید من الشرعیة.
وما یؤکد هذه القراءة مسارعة عبّاس لنفی أی تحدً للاحتلال أو الادارة الأمریکیة، وفی هذا الشأن یقول حسن شاهین: "لکن، لمَ لا یکون محمود عباس ــ الرجل الذی کان عرّاب أوسلو وعُرف طوال تاریخه بدعمه المطلق لنهج التفاوض وللتسویة السلمیة ورفضه للمقاومة ــ جاداً فی الذهاب فی «استحقاق أیلول» إلى منتهاه، والإصرار على إعلان الدولة الفلسطینیة بما یتطلبه ذلک بالضرورة من تحدّ للإدارة الأمیرکیة والقوى الدولیة الفاعلة الأخرى، والصمود فی وجه عِقاب إسرائیل على الأرض؟ الإجابة عن هذا السؤال جاءت على لسان عباس نفسه، حین طمأن غیر مرة من یهمّهم الأمر إلى أنّ خطوته هذه لا تهدف أبداً إلى الخروج عن نهج التسویة.
ففی خطابه الأخیر أمام المجلس المرکزی لمنظمة التحریر الذی انعقد قبل أیام (27/7/2011)، شدد على أنّ الذهاب إلى الأمم المتحدة لیس على حساب المفاوضات، والمفاوضات بحسب تعبیره هی: «خیارنا الأول والثانی والثالث»، وأنّه إذا نجح فی هذه الخطوة «فسیکون شکل المفاوضات مختلفاً»، وأنّ المفاوضات تبقى الخیار حتى بعد الذهاب إلى الأمم المتحدة. وزاد على ذلک بالتأکید أنّه لا یرید التصادم مع الولایات المتحدة، بل یرغب فی التنسیق معها فقط!" لیزید فی أکثر من مناسبة أن خطوته لا تهدف مطلقاً لنزع الشرعیة عن "اسرائیل".
محمود عبّاس صرّح وبالحرف وفی أکثر من مناسبة عن أسباب خطوته، مؤکداً وبشکل مباشر وغیر مباشر أنها لیست تحدیاً ولا مواجهة، بل هی خطوة تنسیقیة وبالتوافق مع الاحتلال والولایات المتحدة، رغم کل ما قیل ویقال عن معارضتهما، وهذه مجموعة حرفیة لأقواله:
· "ذهابنا للأمم المتحدة لا یعنی أننا ضد المفاوضات، ولم نذهب للمنظمة الدولیة إلاّ لأن المفاوضات غیر موجودة".
· "لسنا منقطعین عن الإسرائیلیین، وأنا شخصیا التقیت الرئیس الإسرائیلی، وکذلک إیهود باراک أکثر من مرة، ولکن لم یأتوا بجدید من أجل تحریک عملیة السلام".
"نحن لا نرید من خلال هذه الخطوة عزل إسرائیل، ولا نرغب بذلک، کما أننا لسنا ذاهبین لنزع الشرعیة عنها".
· "لا نرید أن نتحدث بعنتریة، فنحن لا نرید مواجهة مع الأمریکان، وهم یقدمون للسلطة ومؤسساتها دعم یصل لـ470 ملیون دولار سنویا".
· "یدعون أننا نرید نزع شرعیة إسرائیل، وهذا لیس صحیحا، بل نرید أن نمنح الشرعیة لأنفسنا للعیش إلى جانب إسرائیل... ونحث الدول العربیة على الاعتراف بها".
· "لدینا تجربة فی التعاون لیل نهار مع إسرائیل على المستوى الأمنی.. هذا التعاون یتواصل 24 ساعة یومیا من أجل الحفاظ على الهدوء.. سوف نواصل الجهود لمنع الإرهاب" ومن هنا أیضاً یتم تفید هذه المعزوفة التی تصف کل من یعارض النهج التفردی العقیم والکارثی بأن فی صف الأعداء، وبأن ما یقوله یتلاقى مع طرح الاحتلال، الوقائع تثبت العکس تماماً، لأن من یتقاطع مع مصلحة الأعداء، ویسقط حقوق الشعب الفلسطینی للحصول على نصر وهمی وانجاز فاشل مسبقاً، هو من یعمل لیل نهار لتکریس الاحتلال وتطبیق خططه واضفاء الشرعیة علیه.
إلى أین؟
هذا النهج العبثی یقود إلى الهاویة السیاسیة، ویمکن وصف ما یجری فی إطار ما ذهب إلیه ماجد عزّام فی قوله "مع کل التحفظات والمعطیات السابقة، وبعدما تمّ فرض الاستحقاق بشکل یکاد یکون جبریاً وقهریاً، ولا یجری التعاطی مع الجمهور الفلسطینی بشکل شفاف ونزیه ولا یتمّ شرح الأمور بصدق وصراحة، فلا أحد یقول مثلاً إن من المستحیل الحصول على دولة کاملة العضویة فی ظل التهدید الأمریکی باستخدام الفیتو فی مجلس الأمن، وأن ما سیتمّ غالبا ًهوالذهاب إلى الجمعیة العامة للأمم المتحدة للحصول على مکانة دولة غیر عضو بموافقة ثلتی أعضائها أی مائة وثلاثین دولة ، بینما تعترف الآن بالدولة الفلسطینیة مائة وعشر دول تقریباً.
والأهمّ من ذلک کله، لا أحد یتحدّث عن صباح الیوم التالی، وأن لا شیء سیتغیّر على الأرض، بل على العکس، قد یزداد الإحباط والیأس، وتبدأ سیرورة تنتهی بانهیار السلطة نفسها وأیضاً دون نقاش مرتب ومنهجی للفکرة، واستعداد وتحسّب لتداعیاتها السلبیة السیاسیة والاقتصادیة والأمنیة على الشعب الفلسطینی والمشروع الوطنی بشکل عام".
ما تمارسه قیادة السلطة هو عملیة خداع للنفس قبل أن تکون خداعاً للغیر، فی ظل صمت وترهل فصائلی لا یستثنی أحداً، ومحاولة لتغییر ثوابت وقناعات وأهداف شعبنا، ولتصویر خطوة بائسة وکأنها انتصار تاریخی، ونختم بأن نستشهد بما قاله أحدهم یوماً فی رفضه لفکرة الدولة قبل أن یکتب بنفسه إعلانها عام 1988، حیث یطرح محمود درویش فی "مدیح الظل العالی" عدداً من الإجابات الممکنة لسؤاله "ماذا ترید؟"، مثل العلم والجریدة والسیادة فوق الرماد، لکنّه ما لبث أن رفض تلک الإجابات وسخر منها، وکرر درویش إجابته هو عن تلک الأسئلة، قائلاً: "أنتَ، أنتَ المسألة"، وأنهى قصیدته ساخراً من رمزیة فکرة الدولة قائلاً: "ما أوسع الثورة، ما أضیقَ الرحلة، ما أکبَرَ الفکرة، ما أصغَر الدولة!".
قیادة السلطة والمنظمة غیر مؤهلة وفاقدة لکل شرعیة، ولن تحصل على شیء إلا الحسرة والمذلة، وسیکون مصیر استحقاقهم هو مصیر مصالحتهم، قفز فی الهواء، وصفر وخواء.
الحقوق لا تُمنح بل تنتزع، والمعادلة الصحیحة فی وجود احتلال واغتصاب واعتداء هی أنه طالما أن هناک احتلالا فی أحد أطراف المعادلة، فإن طرفها الآخر هو المقاومة بکل الوسائل المشروعة حتى التحیر والعودة، وما دون ذلک عبث وزیف ولن یمکث فی الأرض.
لا نامت أعین الجبناء
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS