الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الصدق والمعنى فی مواجهة الکذب والعبث: (حول حقیقة الصراع بین فلسطین وإسرائیل)

 

حمّودان عبد الوحد

 

"...ألا وإنّ فی الجسد مُضْغة، إذا صلَحت صلَح الجسدُ کله، وإذا فسَدت فسَد الجسدُ کله، ألا وهی القلب". حدیث شریف رواه البخاری ومسلم.

یعطی المفکّر الفرنسی فرانسوا لغوشفوکولد للصدق تعریفا جمیلا، فیه من بساطة التصویر وعمقه ما یثیر الاهتمام ویستحق وقفة تأمل: "یمکن اعتبار الصدق نوعا من انفتاح القلب""1". ویعقب مباشرة: "وهذه الخصلة لا نجدها إلا فی القلیل من الناس" "2"، لیُشدّدَ على المبدإ القائل بأنّ جمال الشیء یکمن فی ندرة وجوده وقلة انتشاره، حسب اعتقاد الشاعر الفرنسی بودلیر فی معرض دراساته النقدیة لمعاییر الجمال. الصادقون، بهذا المفهوم، هم کائنات جمیلة لها شخصیة فیها من الحسن ما یجعل منهم "نخبة" وقع الاختیار علیها.

لکن کیف یمکن للصدق أن یجعل من صاحبه إنسانا جمیلا، وقع الاختیار علیه فأصبح من "النخبة الأخلاقیة"؟ الصدق حالة من أحوال القلب لما یکون فی شکل خاص من الانفتاح. هذا الانفتاح هو، على ما یبدو، مجازی. ویمکن التعبیر عنه بالشکل الذی تتخذه دقات القلب الصادق، التی یمکن تصورها کعملیة انفتاح البراعم التی تستقبل أشعة الشمس ونور الکون، وتندفع نحو الخارج، زهورًا وورودًا وثماراً، عارضة ألوانها البهیّة وأشکالها العجیبة لتسرَّ الناظرین، وناشرة عطورها وروائحها الزکیة لتشمّها الحیاة وتنتعش بها.

والعکس یحصل مع الکذب، لأن القلب یجد نفسه فی حالة اختناق تامة، وضیق عمیق یمنعه من التخلص من آثار تلک النقطة السوداء التی تسکن فی مرکزه، وتعمل بشکل مستمر على جذبه إلیها وتقلیصه بما یجعله ینکمش على نفسه من الداخل ویتآکل تحت ضغط السواد. وهکذا، فإذا کان الصدق نورا، فإن الکذب ظلام. وإذا کان الصدق انفتاحا، فإن الکذب انغلاق. وإذا کان الصدق تعبیراً للقلب عن شوقه لاعتناق الحیاة، فإن الکذب هو منع القلب من تلبیة نداء هذه الحیاة.

وهذا الانفتاح ما هو إلا الشرْح الذی یعنی أنّ القلب مرّ بمرحلة غسل وتطهیر حتى أصبح، فی بیاض ما فوقه بیاض، ناصعا أی نقیا صافیا. ومن دلالات هذا الشرح وآثاره أن یتخلص القلب من کل شیء له علاقة من بعید أو قریب بالکذب، فیشعر بالانشراح. وما الانشراح هنا إلا تلک الحالة التی تعتری الروح حین تتذکر السماء فتشعر أنها خفیفة وقادرة على التحلیق فی أجوائها. وحین یکون القلب بعیدا عن الکذب ومنشرحا، یصبح بمقدور الجسد کله أن یتحرّر من القیود التی تفسد حواسه ورؤاه وأفکاره، بحیث تکون مشاعره وتصرفاته وأقواله کلها صدقا. وهذا معناه، بوجه من الوجوه، أن الصدق نضال من أجل استرجاع حریة الانسان التی ضاعت منه لما خضع فی عبودیة میکانیکیة لمادیات المدنِیّة، واستسلم لحضارة الاستهلاک الذی لا یستثنی من محیطه المنتوجات الفکریة والثقافیة.

إرادة الصدق والنزعة إلى الحریة ظاهرتان متلازمتان، تکمن خصوصیة علاقتهما فی کون الواحدة منهما تشترط وجود الأخرى. ومن اللافت هنا أیضا أنّ من آثار الصدق على القلب أن یصبح هذا الأخیر قادرا على تنظیم أعضاء الجسم التی تتّحِد فی أشغالها وتنسجم فی وظائفها، فتقوم بدورها بممارسة تأثیر على الخیال والتفکیر"3"، فتنتج عن هذا سلامة فی الأفکار، وقوةٌ فی العقل "4".

فإذا حدث للانسان أن یعیش هذه التجربة- أی شرح وانشراح الصدر، وتناغم بین أدوار أعضاء الجسد، وما یترتب عن هذا من تحرر للروح وسلامة فی الفکر- فإن هذا یکون له بمثابة علامة على تأهیله للدخول فی مرحلة الهدایة "5" واستعداده لأن یصبح وعاءً لحمل رسالة "المعنى"، وأداة لتحمّل مسؤولیة تأسیسه والحرص على تنظیمه وتطویره، والسهر على حمایته من غدر الماکرین وخیانة العابثین بالحیاة والإنسان.

ما هی علاقة الصدق بالمعنى؟ هی علاقة الحیاة بالحق: هذا ما تجیب عنه الأشیاء، وتنطق به الوقائع والتجارب، ویشهد به الوجود. هل یُفهَمُ من هذا أن الکذب ظاهرة لیست لها علاقة بالمعنى؟ کل خطاب مبنی على بلاغة النفاق، کل هروب من الواقع، کل تزویر للحقیقة، کل شکل من أشکال الظلم أو شیء من هذا القبیل...، هو فی العمق مشروع ضدّ المعنى. لماذا؟ لأن المعنى هو کل أثر إیجابی، مباشر أو غیر مباشر، ینتج عن علاقة بین الأشیاء، أو بین الأشیاء والانسان، أو بین البشر. وهذه العلاقة هی بالضرورة قائمة على أسس ومبادىء طبیعیة أو علمیة أو اجتماعیة أو قانونیة أو روحیة أو لغویة أو ثقافیة...، سلیمة وأصیلة أی غیر ملفقة وغیر قابلة بالمطلق للابطال لأنها تصهر على تنظیم حیاة الانسان وتصب فی مصلحته. ومن أمثلة المعنى "الأثر الایجابی" تحقیقُ التوازن والانسجامُ بین العناصر المختلفة والظواهر المتنوعة بل وحتى المتناقضة أحیانا، مما یضمن استمرار الحیاة وتجدّدها.

وحین یرید الانسان أن یکون صادقا وتصدر منه علامات "نزعته فی أن یظهر کما هو، دون افتعال وتصنع، ونفوره من حمل الأقنعة، واعترافه بنقائصه ورغبته فی الابتعاد عنها..."، فإنّه یعبّر عن رغبته فی الدخول فی معرکة المعنى ضدّ أنظمة العدم وقوى الظلام وجیوش العبث. کل هذا من أجل الحقیقة وحبّاً فی الحقیقة "6".

صحیح أن الصدق لیس هو الحقیقة، ولکن الجمیع متفق على أنّ سلامة الطویّة والوفاء بالوعود واحترام الالتزامات وقول ما نفعل وفعل ما نقول کلها من دلالات الصدق وبراهین على تعلق الصادق بالحقیقة "7" وإذا لم تُراع هذه المبادئ، خصوصا من طرف جهات مسؤولة، على المستوى التربوی والتعلیمی والإداری والإعلامی والأمنی والسیاسی، سواء تعلق الأمر بأفراد أو جماعات، بمؤسسات أو منظمات أو حکومات.. فمن حق مواطنی دولة أو شعب مجتمع أو طلاب مؤسسة تعلیمیة أو أفراد أسرة مثلا أن یسحبوا ثقتهم من حکامهم وولاة أمورهم وأساتذتهم وآبائهم. ومن هنا أیضا هذا السؤال الثقافی والحضاری الکبیر: إذا لم یحترم المسؤولون التزاماتهم وتنکروا نظریا وعملیا لأمانة "الأسوة" و"المثال" الذی یُحتذى به، کیف یمکن إقناع الشباب والصغار وکلّ الرعیة بالتزام الصدق وتجنب الکذب؟

ومن المفید فی هذا السیاق أن یکون معنى کلمة صادق فی اللاتینیة یأتی من sine-cirus التی تعنی بدون شمْعsans cire. وکانت هذه الصفة فی الأصل تعنی العسل الصافی الذی لم یخلطه مُرَبّی النحل بالشمْع، ثم أصبحت فیما بعد تُطبّق على النحال نفسه. وفی الأخیر، عُمِّمَ هذا المعنى على کل إنسان واعٍ، نقی ومخلص ولا یکذب "8". ومن الأهمیّة بمکان أن لا ننسى أنّ للصدق فی اللغة العربیة علاقات، من الناحیة الاشتقاقیة والمعنویة، بکلمات مثل التصدیق والصداقة والصدقة. ونعتقد، بهذا الصدد، أنّ من تجَمّعت فیه، من الصحابة، الخصالُ الکاملة للصدق هو أبو بکر رضی الله عنه؛ فقد کان فی تعامله مع الحقیقة ووعائها المُرْسَل محمّد علیه الصلاة والسلام، مُصَدِّقا وصِدّیقا وصَدیقا، ومُتصَدِّقا بکل ما یملک. وتجلى صدقُه أیضاً- أو توِّج فی الأخیر- فی الحرب التی قادها ضدّ الکذب ومحاولات التحریف التی تجرأت، مع حرکة مسیلمة الکذاب، على دین الحق وأرادت أن تطفئ نور الحقیقة.. ولقد کان من الأنسب لمؤرّخی الإسلام أن ینعتوا ما سموه بحروب الردة بحروب المعنى، أی وقوف الحق والحقیقة فی وجه مشاریع اللامعنى، أی الکذب والتزویر والتلفیق.

ما هی الحالة التی علیها قلب نتنیاهو ولیبرمان وأمثالهما من رؤساء الأحزاب وکبار الشخصیات الیمینیة والیساریة الإسرائیلیة یا ترى؟ وما هو حال قلوب الذین یتواطؤون مع الاحتلال ویوفرون له غطاءات ویبحثون له عن مبرّرات کما هو حال أوباما والإدارة الأمریکیة "ومن قبل بوش ودیک شینی ورامسفیلد ورایز وآخرون کثیرون.."، ویغضون نظرهم عن سیاسته التهویدیة لکل ما له علاقة بالهویة الفلسطینیة والعربیة والإسلامیة، ولا یجدون حرجا فی أن یتابع المستوطنون مشاریعهم؟ لماذا هذا العنت الکبیر ضدّ الحقیقة، والتمسک المستمیت بالکذب وتزویر الحقائق وقلب الأشیاء، والتصرف بکبریاء وتجبر، والاستهزاء بحیاة الناس واللعب بالقیم والمقامرة بالمبادئ والأخلاق والدین والتاریخ؟

لقد وضعوا کلّ ثقتهم فی آلهة "القوّة ومشتقاتها من حبّ الذات والأنانیة والغطرسة والتجبّر.." تصوّروها بخیالهم القصیر وفصّلوها على حسب حاجاتهم وتسلطهم وجشعهم، وتقییماتهم القاصرة لواقع العلاقات بین البشر، فأعطوها أسماءً وأوصافا "المال، والسلاح والتصنیع العسکری، ووسائل الإعلام، والتحایل على القوانین والالتفاف علیها بتعدیلات وإضافات جدیدة، ظرفیة وبراجماتیة وعشوائیة لبسط النفوذ.." احتکرت اللغة السیاسیة والاقتصادیة والإخباریة والثقافیة والخلقیة ومنعتها من فتح أبوابها أمام الحقیقة وأخواتها "کلّ الحقوق الإنسانیة الشرعیة والقانونیة الدولیة من حریة وعدالة ومساواة وکرامة.."، فأصیبوا بـ"العمى" الذی استحوذ على قلوبهم ووضع بینهم وبین الحقیقة حواجز تمنعهم من رؤیتها. إنهم لم یوظفوا القلب بطریقة تسمح له بأن یکون منفتحا ومنشرحا فعجزوا عن مشاهدة الحیاة فی وجهها الحقیقی، بل إنهم لعاجزون الیوم عن فهم معنى تنطق به کل الکائنات وتشهد به جمیع المخلوقات، ألا وأنّ کل شیء موجود بإرادة الصدق وقائم على أساس الحق: "وما خلقنا السماوات والأرض وما بینهما لاعبین، ما خلقناهما إلا بالحق وَلَکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لا یَعْلَمُونَ".

وما عدا الصدق والحق فهو لهو ولعب وزور وبهتان. والذی یبقى هو الصدق، والذی یدوم هو الحق، أما الکذب والتلفیق والتزویر فکلها أشیاء مآلها الزوال والفناء: "..وجادَلوا بالباطل لِیدْحَضوا به الحقَّ فأخذتُهم فکیف کان عقاب".

هل تستطیع مشاریع حکام إسرائیل الاحتلالیة والتهویدیة والأبارتادیة- القائمة على الکذب والتزویر والتلفیق والتفرقة والعنصریة والقمع والظلم والتشرید والتجویع والتقتیل، وبتواطؤ أصدقاءها فی الغرب وخیانة بعض الأنظمة العربیة- أن تصمد فی وجه "المعنى"، أی حقوق الفلسطینیین وحقائق الحیاة وتطلعات کل القلوب الصادق، عربیّة کانت أم لا، مسلمة أو غیر مسلمة، إلى شموس العدل والحریة والسلام؟

إنّ أوّل من یعرف الجوابَ الحقیقی الواقعی عن هذا السؤال لهی دولة إسرائیل وأتباعها من أمریکیّین وغیرهم، وهم یعرفون جیداً ویعترفون فی قرارات أنفسهم باستحالة انتصار قوى الکذب والعبث والموت فی وجه الصدق والمعنى والحیاة، لکنّهم، کما یقول القرآن الکریم فی خطاب موجه لمحمّد علیة الصلاة والسلام: "..لا یُکذّبونک ولکنّ الظالمین بآیات الله یجحدون"، ومعنى جحد فی اللغة العربیة "عرف الحق ثم أنکره" تکبّرا وعمیانا وطغیانا...

ویبقى واضحا لمن یعرف التاریخَ أنّ حالات المواجهة التی عرفتها المجتمعات الإنسانیة بین أنصار الحقیقة والصدق والحریة، وجیوش التکذیب والخداع والجحود والعبثیة.. قد انتهت کلها لفائدة قیم العدل والعدالة والحبّ والخیر... وهذه هی "الکلمة الکبرى الیقینیة" أو الکلمات التی لا یمکن تغییرها لأنها من مصدر نورانی إلهی: "..حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِکَلِمَاتِ اللَّهِ..".

الهوامش:

"1" LA ROCHEFOUCAULD François, Maximes et réflexions, Gallimard, Paris, 1965, p. 36 et 141

"2" انظر نفس المرجع ، ص 36.

"3" فیما یخصّ دور الخیال فی البحث عن الحقیقة، أحیل القارىء إلى ما کتبه الفیلسوف الفرنسی مالبغانش بهذا الصدد. أنظر MALEBRANCHE, De l’imagination ; de la recherche de la vérité, Livre II, Pocket, Paris, éd. 2006.

"4" LA ROCHEFOUCAULD, Maximes et réflexions, p.32 : " La force et la faiblesse de l’esprit sont mal nommées : elles ne sont en effet que la bonne ou la mauvaise disposition des organes du corps ".

"5" أنظر ما تقوله عائشة عبدالرحمن بنت الشاطىء، التفسیر البیانی للقرآن الکریم، الجزء الأول، دار المعارف، القاهرة 1982، ص 58 وما بعدها، بصدد شرح الآیة الکریمة : " ألم نشرح لک صدرک". من ذلک مثلا قولها فی معنى الشرح، هو " هدى الایمان ونور الحق وراحة الیقین والسلام النفسی" ، " کونه طمأنینة نفس ، وهدى إیمان، وارتیاحا إلى الیقین " ص 60.

"6" أنظر لغوشفوکولد ، ص141.

"7" FIZE Michel, Les menteurs : pourquoi ont-ils peur de la vérité ?, les éditions de l’homme, Montréal, Québec, 2007.p. 137.

"8" نفس المرجع ، ص 136.

ن/25

| رمز الموضوع: 143304







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  2. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  3. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  4. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  5. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  6. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  7. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  8. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  9. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
  10. طهران ترفع الستار عن وثائقي للمقاومة في فلسطين وايرلندا
  11. حكومة الاحتلال تقرّر توسيع الحرب على غزة رغم التحذيرات
  12. وزير العلوم الإيراني: الرأي العام العالمي لا يعترف بالكيان الصهيوني
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)