الربیع العربی وتحدیات الوسیط الإمبریالی
إدریس جنداری
1 - الربیع العربی.. بین تحدیات الداخل وتحدیات الخارج: یدشن الربیع العربی، الیوم، لعهد جدید فی العالم العربی، قوامه استعادة فکر التحرر الوطنی، کسلاح لمواجهة تحدیات الداخل والخارج، فعلى المستوى الأول، یبدو أن المد الثوری قد نجح فی اقتلاع جذور الاستبداد والتسلط فی عدة أقطار عربیة، وآلة الهدم والاقتلاع ما تزال تواصل طریقها بلا هوادة، مشرقا ومغربا، أما على المستوى الثانی، فإن بوادر الثورة على المشاریع الاستعماریة فی المنطقة العربیة، بدأت تعلن عن نفسها، سواء من خلال الرجة القویة التی أحدثها الحراک الشعبی فی مصر، فی مواجهة اتفاقیة الذل والعار مع الصهاینة "کامب دیفید"، أو من خلال الخطة الفلسطینیة الجدیدة، القاضیة بتدویل القضیة الفلسطینیة وإخراجها من عتمة المفاوضات الثنائیة المتحکم فیها أمریکیا، والتی نجحت لعقود فی حمایة الکیان الصهیونی من الرجات العنیفة التی عرفتها المنطقة العربیة، وفی المقابل فشلت فی تأمین المستقبل الفلسطینی، الذی ظل رهینة فی ید الصهاینة، یبلورونه حسب مصالحهم الإستراتیجیة.
إن الحراک الشعبی العربی، حینما یوحد بین تحدیات الداخل والخارج، وحینما یجمع بین الدیمقراطیة والتحرر، لا یخطئ الطریق، کما لا یخطئ فی تقدیر طبیعة الرهان المنشود، وذلک لأن تحدیات الداخل لا تقل خطورة عن تحدیات الخارج، کما أن مواجهة تحدیات الخارج تتطلب قدرة ووعیا داخلیا، یجب أن یکون فی مستوى هذه التحدیات المفروضة.
لذلک، یجب أن نستوعب جیدا، طبیعة هذا التزامن الذی یفرض نفسه، الیوم، فالنجاح- رغم نسبیته- الذی حققه المد الثوری العربی، فی الإطاحة بأنظمة تسلطیة عمیلة للغرب، بدأ یعطی ثماره بشکل سریع جدا، على مستوى المواجهة الخارجیة، وبشکل خاص، فی مواجهة الکیان الصهیونی، وذلک لأن النخبة الثوریة، على تمام الوعی، بأن الکیان الصهیونی یجسد بقوة، المشاریع الاستعماریة الغربیة فی المنطقة العربیة، ولذلک فإن مواجهة هذه المشاریع، تمر- بالضرورة- عبر مواجهة مفتوحة مع الکیان الصهیونی.
وذلک لأن دروس التاریخ تثبت، أن الاستعمار الغربی دشن المرحلة الثانیة من مسیرته الاستعماریة فی المنطقة العربیة، منذ صدور وعد بلفور عن الحکومة البریطانیة سنة 1917، والذی سیتطور إلى إعلان دولة "أنبوبیة" سنة 1948، بدعم أوروبی- أمریکی کامل.
وقد کان هذا التأسیس، بمثابة إعلان صریح عن استمراریة التواجد الاستعماری فی المنطقة، فقد خرجت القوى الاستعماریة الغربیة من الباب على وقع ضربات المقاومة، لکنها تسللت عبر النافذة، من خلال الوسیط الامبریالی، الذی سیعمل على تجدید العهد مع وظیفته القدیمة التی میزت تواجده فی أوروبا.
إن المد الثوری العربی، وهو یوحد بین مواجهة الأنظمة التسلطیة الفاسدة من جهة، والصهیونیة من جهة أخرى، یکون قد وضع للمرة الأولى فی التاریخ العربی الحدیث، العربة على السکة الصحیحة، وذلک لأن النضال من أجل الدیمقراطیة، یتطلب وعیا حادا بمختلف التحدیات التی یفرضها التواجد الاستعماری فی المنطقة العربیة، والذی یجسده الکیان الصهیونی بامتیاز، منذ التأسیس وحتى حدود الآن.
2 - الحرکة الصهیونیة: مشروع استعماری غربی بغطاء یهودی: عاش العالم، حتى نهایة الحرب العالمیة الثانیة، على وقع أشکال خطیرة من التطرف الفکری والسیاسی، وقد زکت هذا التطرف، الحرکات القومیة المتطرفة فی أوروبا. وهکذا ظهرت الفاشیة فی إیطالیا، والنازیة فی ألمانیا... وهما شکلان فقط من بین أشکال کثیرة من التطرف، لکن النازیة تمیزت بین هذه الحرکات القومیة المتطرفة بطاقتها المتفجرة، التی تقوم على أساس الجنس النقی "الآری".
بعد اندلاع الحرب العالمیة الثانیة، کان من أهم النتائج المتحققة، القضاء على هذه الحرکات، التی أثارت الرعب فی أوروبا وفی العالم، وصار مؤرخو الفکر یتحدثون عن نهایة عهد القومیات، لیفسح المجال أمام عهد جدید، یقوم على تکتلات أوسع وأشمل، کان الاتحاد الأوروبی من أهم تجلیاتها.
خلال هذه المرحلة، وبعد أن تمکنت أوروبا من القضاء على کل حرکات التطرف القومی، کان المکبوت الغربی، یبحث عن مکان بدیل، خارج أوروبا لزرع التطرف القومی من جدید. وبعد نهایة الحرب العالمیة الثانیة، بثلاث سنوات "1948" کان الغرب على کامل الاستعداد لزرع جرثومة سرطانیة فی الجسد العربی الإسلامی، تلک الجرثومة التی تخلص منها، عبر عملیة جراحیة قاسیة، أودت بأرواح آلاف المدنیین، وخربت أوروبا عن آخرها.
لقد کان الغرب على تمام الوعی، بتصدیر أمراضه خارج الحدود، وظهرت ملامح هذا الوعی منذ 1917 تاریخ صدور وعد بلفور، وکان الهدف، هو تحقیق الشفاء- طبعا- بعد زرع المرض فی جسد آخر.
وإذا کانت الصهیونیة قد تأسست فعلیا سنة 1948 فی شکل کیان استعماری/ عنصری/ متطرف، فإن البذور الأولى لهذا التأسیس، تعود إلى ما قبل ذلک بکثیر. فقد کان أول ظهور لمصطلح الصهیونیة سنة 1890 على ید الکاتب الیهودی "ناثان برونباوم"، فی مقالة له منشورة فی مجلة "التحرر الذاتی"، ثم استعاده مرة أخرى فی کتاب له بعنوان "الإحیاء القومی للشعب الیهودی فی وطنه کوسیلة لحل المشکلة الیهودیة" "1"، سنة 1893.
وقد کان حضور هذا المصطلح عند برونباوم، یمثل استجابة نظریة لواقع فعلی یتمثل فی ظهور مجموعة من التنظیمات اختارت کلمة "صهیون" اسما لها مثل جمعیة "أحباء صهیون"، فضلا عن الإکثار من استخدام الکلمة فی شعارات وخطابات وکتب رجالات الفکر الصهیونی، أواخر القرن التاسع عشر. ویعرف برونباوم الصهیونیة بوصفها "نهضة سیاسیة للیهود تستهدف عودتهم الجماعیة إلى أرض فلسطین".
وفی العام 1896 قام الصحفی الیهودی "تیودور هرتزل" بنشر کتاب اسمه "دولة الیهود"، وفیه طرح فکرة اللاسامیة، وکیفیة علاجها، وهو إقامة وطن قومی للیهود. وفی العام 1897 نظم هرتزل أول مؤتمر صهیونی فی مدینة "بازل" السویسریة، وحضره 200 مفوض، حیث صاغوا برنامج بازل، الذی سیظل هو برنامج الحرکة الصهیونیة "2".
وکما یبدو من خلال مراحل التأسیس، فقد تشکلت الصهیونیة، کإیدیولوجیة وکحرکة سیاسیة، فی موازاة مع صعود الإیدیولوجیة القومیة فی أوروبا، وبنمو اهتمام المرکز الإمبریالی، بإیجاد کیانات مصطنعة فی مراکز مستعمراته، لضمان الهیمنة.
وقد استغل یهود أوروبا أجواء المرحلة، الطافحة بالروح القومیة، وطالبوا القوى الاستعماریة، بتوفیر وطن قومی لهم. وقد أثارت هذه الفکرة اهتمام الأوروبیین، منذ البدایة، وحصلت على دعمهم اللامحدود، لأنها قادرة على تحقیق طموحین أوروبیین:
- أولا: إجلاء الیهود من أوروبا، باعتبارهم یمثلون نشازا داخل المجتمعات الأوروبیة، ویثیرون القلاقل والنزعات، ومواطنتهم غیر مضمونة "حادثة دریفوس فی فرنسا- اتهام هتلر للیهود الألمان بخیانة وطنهم". وقد کانت بولندا نموذجا فی هذا السیاق، فقد شجعت الحکومة البولندیة هجرة الیهود، بل تدخلت بطریقة مباشرة، فی تأسیس منظمات إرهابیة، تعمل على إجلاء الفلسطینیین، لإفساح المجال للیهود المهاجرین "وخیر مثال على ذلک منظمة الهاجاناه الإرهابیة" التی تأسست بدعم مباشر، مالی وعسکری، من الحکومة البولندیة.
- ثانیا: صناعة وسیط إمبریالی، قادر على حمایة المصالح الغربیة، فی منطقة غنیة بالثروات الطبیعیة، وفی هذا المجال استغل الیهود شهرتهم الواسعة، فی أوروبا کوسطاء مالیین، أثناء العصر الإقطاعی، حیث ساهموا بشکل فعال، فی تخفیف القیود الدینیة المسیحیة، التی کانت تحرم الربا. لکن وبعد تراجع سلطة الکنیسة وتحریر التعاملات التجاریة من القیود، فقد الیهود الکثیر من إشعاعهم، ولذلک فقد فکروا فی مواصلة نفس النشاط "السمسرة"، ولکن هذه المرة خارج الحدود الأوروبیة. فقد قدموا أنفسهم، کوسیط إمبریالی، قادر على المحافظة على المصالح الاستعماریة خارج الحدود، کما حافظ خلال عصر الإقطاع على هذه المصالح داخل الحدود.
وبما أن القارة الإفریقیة کانت أرضا مشاعا بین القوى الاستعماریة، تصول فیها وتجول بلا رقیب، فقد کان اقتراح بریطانیا فی البدایة، أن ینشئ الصهاینة وطنهم القومی شرق إفریقیا فی أوغندا، وقدمت الحکومة البریطانیة لذلک دعما مالیا للحرکة الصهیونیة، لکن هذا الاقتراح لم یرق لرموز الصهیونیة.
فعندما عقد المؤتمر السابع سنة 1905 تم رفض أوغندا، کوطن قومی للیهود، وشکل "أرائیل لانغول" المنظمة الإقلیمیة الیهودیة، التی لها صلاحیة اختیار مکان مناسب للوطن القومی للیهود. وخلال هذا المؤتمر کانت فلسطین مطروحة على طاولة النقاش، نظرا لما تحمله من شحنة دینیة، کانت أعین الصهاینة موجهة إلیها منذ البدایة لاستغلالها، عبر تحویلها إلى إیدیولوجیا، تخدم المصالح الاستعماریة للغرب، کما تخدم مصالح الصهیونیة.
لقد نجح الصهاینة- إذن- فی إقناع القوى الاستعماریة- وخصوصا بریطانیا- بإنشاء وطنهم القومی، على أرض فلسطین، وصدر وعد بلفور المشؤوم سنة 1917، الذی ینظر للرعایا الیهود بعین العطف، ویمنحهم وطنا، کأنه مقتطع من الأراضی البریطانیة، إنه حقیقة، کما یسمى وعد "من لا یملک لمن لا یستحق" وذلک بناء على المقولة الصهیونیة المزیفة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وهذا نص الوعد الذی قدمه آرثر بلفور:
وزارة الخارجیة
فی الثانی من نوفمبر/ تشرین الثانی سنة 1917
عزیزی اللورد روتشیلد، یسرنی جداً أن أبلغکم بالنیابة عن حکومة جلالته، التصریح التالی الذی ینطوی على العطف على أمانی الیهود والصهیونیة، وقد عرض على الوزارة وأقرته:"إن حکومة صاحب الجلالة تنظر بعین العطف إلى تأسیس وطن قومی للشعب الیهودی فی فلسطین، وستبذل غایة جهدها لتسهیل تحقیق هذه الغایة، على أن یفهم جلیاً أنه لن یؤتى بعمل من شأنه أن ینتقص من الحقوق المدنیة والدینیة التی تتمتع بها الطوائف غیر الیهودیة المقیمة الآن فی فلسطین، ولا الحقوق أو الوضع السیاسی الذی یتمتع به الیهود فی البلدان الأخرى". وسأکون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهیونی علماً بهذا التصریح. المخلص: آرثر بلفور "3".
وکما یبدو من خلال الوعد، فإن الحکومة البریطانیة متورطة بشکل واضح فی صناعة کیان عنصری وإرهابی، فی وطن یسکنه أهله لمئات السنین، وهذه الحقیقة التاریخیة، هی ما یتلافاها بلفور فی وعده للصهاینة، فهو ینطلق بشکل واضح من المقولة الصهیونیة: أرض بلا شعب لشعب بلا أرض. ولذلک فهو یکتفی بالإشارة إلى "الطوائف غیر الیهودیة المقیمة فی فلسطین" ولیس "الشعب الفلسطینی".
وهذا فی الحقیقة لیس هفوة من آرثر بلفور، بل إن الإیدیولوجیا الاستعماریة الغربیة، تقوم على هذا الأساس، حیث نجد فی أشهر الموسوعات الفرنسیة "encyclopédie universalis" "4" مصطلح "صهیونیة sionisme یرتکز على النظر إلى الصهیونیة بوصفها حرکة لحل المشکلة الیهودیة "مشکلة الشتات، وما أصاب الیهود فیها من اضطهاد".
وفی طبعة عام 1943 من موسوعة "دائرة المعارف البریطانیة" تم تعریف الصهیونیة بأنها "رد فعل للیهود على اللاسامیة الأممیة""5".
أما فی طبعة 2000 من الموسوعة البریطانیة فنقرأ تعریفا "إسرائیلیا" للصهیونیة، بلغ فی صهیونیته، حد تسمیة فلسطین ﺒ"أرض إسرائیل""6". وتزید الموسوعة "البریطانیة" فتستخدم اللفظ العبری لتأکید هذا المعنى، مقدمة کل ذلک وکأنه من المسلمات التی لا خلاف علیها! حیث جاء فی الموسوعة: "الصهیونیة حرکة یهودیة قومیة تستهدف إنشاء ودعم دولة للیهود فی فلسطین "إرتز یسرائیل" "أرض إسرائیل بالعبریة".
والموسوعة "العلمیة" البریطانیة بهذا التحدید، تقوم بالدعایة المفضوحة للمشروع الصهیونی، الذی عمل ولا یزال على ابتزاز دول العالم، بحجة الاضطهاد الذی مورس على الیهود فی أوروبا، والتغطیة على فعلها الاستعماری وإبادة وإجلاء الشعب الفلسطینی من أرضه.
وفی هذا السیاق کذلک نجد مؤسس الحرکة الصهیونیة تیودور هرتزل یعرف الصهیونیة بأنها "حرکة الشعب الیهودی فی طریقه إلى فلسطین" وهو التعریف الذی أخذت تکرره مختلف الأدبیات الخاصة بالمسألة الصهیونیة.
ولعل مقارنة بسیطة، بین التعریفات التی صاغها مؤسسو الصهیونیة لحرکتهم، وبین ما تصوغه هذه الموسوعات "العلمیة"، لیؤکد بوضوح، أن الصهیونیة إیدیولوجیة استعماریة، نظر لها- وما یزال- العقل الغربی، ویعمل الوسیط الاستعماری على التنفیذ، حمایة للمصالح الاستعماریة الغربیة.
وقد حدث هذا أثناء التأسیس، وما یزال مستمرا حتى حدود الآن، من خلال الدعم الغربی، سیاسیا واقتصادیا وعسکریا، سواء من أوروبا أو أمریکا، وخصوصا بعد الطفرة النفطیة الکبیرة فی المنطقة، فقد أصبحت إسرائیل رأس الحربة، فی جمیع الخطط التی تستهدف المنطقة العربیة، باعتبارها وسیطا استعماریا فوق العادة.
3 - فی الحاجة إلى استلهام فکر التحرر الوطنی/القومی لمواجهة التحدی الاستعماری/ الصهیونی: إن العالم العربی، الیوم، وهو یؤسس لربیع الدیمقراطیة والتحرر، یجب أن یکون فی مستوى تحدیات المرحلة، وعلى النخب السیاسیة والفکریة العربیة أن تعلم، أن الأمة العربیة تعیش على إیقاع الطبعة الثانیة من الاستعمار الغربی للمنطقة، وأن الحدیث عن الاستقلال، فی ظل الاستیطان الإسرائیلی، هو مجرد أو هام، لا علاقة لها بالواقع، فکل المنطقة العربیة مستهدفة، من طرف المخطط الاستعماری الصهیونی، ومن دون استثناء.
والواجب یفرض، الیوم، أکثر من أی وقت مضى، استعادة فکر التحرر الوطنی والقومی، الذی ساد خلال المرحلة الاستعماریة الأولى، واستطاع طرد أعتى القوى الاستعماریة من المنطقة العربیة، عبر تضحیات ملایین الشهداء، فی مشرق العالم العربی ومغربه بلا استثناء.
أما أن نطوی هذا الإرث النضالی، فی مرحلة خطیرة من تاریخ أمتنا، فهذه مغامرة غیر محسوبة العواقب، لا یمکن أن نجنی منها سوى الخیبات، التی رافقتنا منذ إجهاض مشاریع التحرر الوطنی والقومی، والتی قادها رجالات المقاومة والتحریر، فی جمیع أقطار العالم العربی.
إن النضال من أجل الدیمقراطیة فی العالم العربی، الیوم، لا یجب أن ینفصل عن النضال من أجل التحرر، وهذا أول درس تقدمه إلینا حرکات التحرر الوطنی/القومی، التی لم تفصل یوما بین تحدیات الخارج وتحدیات الداخل، ولعل الانتقال نحو المنهجیة الدیمقراطیة ودولة المؤسسات فی العالم العربی، هو المدخل الرئیسی، لتحقیق استقلالیة القرار السیاسی والاقتصادی والثقافی... العربی.
لقد کان الکیان الصهیونی، لعقود من الصراع، المستفید الأول، من غیاب المنهجیة الدیمقراطیة ودولة المؤسسات، فی العالم العربی، کما أن قوته فی المواجهة، کانت ترتبط بالوعی المبکر لقادة الصهیونیة، بفعالیة المنهجیة الدیمقراطیة وهیاکل الدولة الحدیثة. ولذلک استطاع الصهاینة، کسب التأیید الدولی لمشروعهم الاستعماری، بادعاء منهجیته الدیمقراطیة، وقدرته على بناء مؤسسات الدولة الحدیثة، لکن فی المقابل، خسر العرب الرهان، لأن الأنظمة الاستبدادیة الحاکمة فی العالم العربی، لا یمکنها أن تؤسس للمنهجیة الدیمقراطیة، کما لا یمکنها بناء دولة المؤسسات، بل على العکس من ذلک، فهی لا تدافع سوى عن مصالحها الخاصة، حتى ولو کان ذلک على حساب المصالح الوطنیة والقومیة.
إن غیاب الإرادة الشعبیة، لعقود، عن صناعة القرار السیاسی فی العالم العربی، هو الذی کان یهدد على الدوام، سیادتنا الوطنیة/القومیة، وذلک لأن أی نظام سیاسی لا یمتلک السند الشعبی والشرعیة الشعبیة، یکون دوما فی موقف ضعف، على مستوى سیاسته الخارجیة، لأن القوى الاستعماریة تبقى دوما مستعدة لممارسة سیاسة الابتزاز، وذلک عبر غض الطرف مقابل الحفاظ على مصالحها الإستراتیجیة، وبذلک یکون الابتزاز مضاعفا، وتخسر الدولة فی الأخیر کل مواردها، فی سبیل إرضاء هذه القوى الاستعماریة.
لقد مارس الغرب فی علاقته بالعالم العربی، سیاسة استعماریة مقیتة، تقوم على تصور واضح، یسعى إلى المحافظة على وضعیة السطاتیکو خدمة لمصالحه، ویمکن رصد هذا التصور على مستوى محورین أساسیین:
- المحور الأول: دعم الأنظمة الاستبدادیة/ البولیسیة، فی مواجهة شعوبها، ویقوم هذه الدعم على أساس مدها بأحدث التجهیزات العسکریة، وتدریب أجهزتها الأمنیة/ العسکریة، لمواجهة أی "تمرد شعبی"، کما یقوم على أساس الموقف السیاسی الداعم لهذه الأنظمة، باعتبارها الخیار الوحید الممکن، لتحقیق استمراریة الدولة.
وسواء على مستوى الدعم المادی أو الرمزی، فإن قوى الاستعمار الغربی، کانت تسعى إلى المحافظة على هذه الأنظمة، التی نجحت- بشکل مبهر- لعقود، فی استنزاف موارد وقدرات الدولة خدمة للمصالح الغربیة، وهذا ما لم یتحقق حتى خلال المرحلة الاستعماریة الأولى، حیث کان الاستعمار ینزل بجنوده للسیطرة على المجال، وإخضاعه لمصالحه.
لقد ظلت فرنسا وفیة لنظام بن علی فی تونس إلى آخر لحظة من عمره، وعبرت عن وفائها باقتراحها- المتحضر جدا- بمحاصرة "التمرد" الشعبی، عبر إرسال قوات مکافحة الشغب الفرنسیة، وعبر تصدیر الأسلحة المتطورة، القادرة على قمع المتظاهرین، الذی یهددون عرش الجمهوریة الفرنسیة العظمى فی تونس.
کما ظلت إسرائیل تدعم بدون انقطاع، نظام مبارک، وهو یترنح على وقع المد الثوری، وجربت کل الوسائل، فی شراکة- طبعا- مع رموز الفساد، من الأمنیین وجهاز المخابرات، وجمیع الأجهزة النافذة، التی کانت تحمی عرش إسرائیل فی قاهرة المعز، جربت کل الوسائل لإخماد النیران المشتعلة، وهی تعلم جیدا أنها ستلتهم کل ما راکمته، لعقود، من خلال شراکتها الإستراتیجیة الفریدة جدا، مع نظام مبارک، الذی لم یکن یلتفت إلى المصلحة الوطنیة أو القومیة، أکثر من التفاته إلى المحافظة على مصالحه الشخصیة، التی توفرها وتحمیها، الشراکة مع الکیان الصهیونی النافذ فی المنطقة، والذی یمتلک مفاتیح قارون، التی توصل إلى مخازن الذهب والفضة...!
وما ذکرناه بخصوص فرنسا وإسرائیل، فی علاقاتهما المشبوهة مع النظامین البائدین، فی تونس ومصر، لا یمثل الاستثناء، بل ذلک هو القاعدة الأساسیة، فی تعامل القوى الاستعماریة مع العالم العربی، من المشرق إلى المغرب، فهی لا تهتم بترسیخ الدیمقراطیة، کما لا تهتم بالإرادة الشعبیة، وهی لا تکترث لطبیعة الأنظمة الحاکمة- حتى ولو کانت قروسطویة/ استبدادیة/ بولیسیة/ متطرفة...! بقدر ما تسعى إلى المحافظة على مصالحها الإستراتیجیة، التی تزعم أن هذه الأنظمة قادرة لوحدها على حمایتها.
إن الربیع العربی، الیوم، وهو یطیح بهذه الأنظمة البولیسیة العمیلة للقوى الاستعماریة، هو فی الحقیقة یؤسس لمرحلة جدیدة فی عالمنا العربی، قوامها السیادة الوطنیة، التی ستظل أمانة فی أعناق النخبة الثوریة، التی ساهمت فی إطلاق شرارة المد الثوری، فبقدر النضال من أجل ترسیخ قیم الدیمقراطیة فی منظومتنا السیاسیة، یجب أن یکون النضال، من أجل حمایة السیادة الوطنیة، التی تظل مهددة من طرف القوى الاستعماریة.
ویحضر الکیان الصهیونی فی المنطقة العربیة، کأکبر تهدید لمستقبل الربیع العربی، وذلک لأن قادة الاحتلال الصهیونی مستعدون بضوء أخضر أمریکی- أوروبی، لعرقلة أی توجه یهدد المصالح الاستعماریة فی المنطقة العربیة، وخصوصا إذا ارتبطت هذه المصالح بالوسیط الامبریالی "إسرائیل"، المؤتمن على حمایة التواجد الغربی فی العالم العربی.
من هنا یمکن أن نفهم، السعار الذی أصاب قادة الکیان الصهیونی، ومعهم ممثل الأیباک فی أمریکا "أوباما"! بعد اعتزام الفلسطینیین، التوجه إلى الأمم المتحدة، لطلب العضویة الکاملة لدولة فلسطین، الشیء الذی اعتبروه تجاسرا على سادة العالم، فلیس هناک طریق مختصرة للوصول إلى تأسیس الدولة الفلسطینیة المستقلة، یصرخ أوباما وهو یستجدی الأیباک، للحصول على ولایة رئاسیة ثانیة!
- المحور الثانی: دعم وحمایة الکیان الصهیونی، وهذا رباط مقدس لا انفصام له فی الفکر الغربی الحدیث، وذلک لأن هذا/ هذه الدعم/ الحمایة، یقوم/ تقوم بوظیفتین مزدوجتین، الأولى تطهیریة، کان یسعى من خلالها الغرب، إلى التکفیر عن تاریخه الأسود مع الیهود، الذین عوملوا فی أوروبا کعبید، لقرون، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بین الجیران الأوروبیین الألداء، وتوقیع اتفاقیات الصلح والصداقة، بعد "ح ع 1" و"ح ع 2"، بدأت قضیة الیهود تفرض نفسها فی أوروبا بقوة، وکان التفکیر فی البحث عن وطن للیهود. أما الوظیفة الثانیة، فهی إستراتیجیة، ترتبط بتعویض الانسحاب الغربی من العالم العربی، ولا یمکن أن یتقن هذه الوظیفة، غیر الصهاینة، الذین یشهد لهم فی أوروبا، بإتقان مهمة الوساطة "السمسرة".
من هذا المنظور- إذن- کان الغرب یتعامل مع القضیة الصهیونیة، باعتبارها حصان طروادة، یحقق مجموعة من الغایات، التی تبدو للوهلة الأولى متناقضة، لکن الثقة المفرطة للقوى الاستعماریة الغربیة، فی قدرتها على تدجین الجمیع، وفرض أجندتها، کان یسهل المهمة، ویحول الجمیع إلى وسائل، فی خدمة المشروع الاستعماری الغربی.
إن القوى الاستعماریة الغربیة، حینما تدعم الکیان الصهیونی بمختلف الأشکال والوسائل، فهی تعمل بصیغة غیر مباشرة، على حمایة المشروع الاستعماری الغربی، الذی انطلق فی المنطقة العربیة خلال مرحلة القرن التاسع عشر، لکنه انکسر على ید حرکات التحرر الوطنی، التی نجحت فی استثمار التحولات الدولیة، لإعلان الاستقلال فی جمیع الأقطار العربیة، مشرقا ومغربا.
ومن ثم فإن القوى الاستعماریة فی علاقتها بالعالم العربی، تمتلک إستراتیجیة واحدة، تسعى إلى تصریفها عبر خطط مختلفة، لکن التصور الذی یتحکم فی هذه الخطط واحد، ولذلک یتساوى لدیها دعم الأنظمة السیاسیة التسلطیة، بدعم الکیان الصهیونی، والهدف واحد، هو تحقیق استمراریة الهیمنة الغربیة على المنطقة، عبر استنزاف ثرواتها الطبیعیة، وتحویلها إلى سوق استهلاکیة ضخمة، لمنتجات الغرب الصناعیة.
- عود على بدء
إن الواجب الوطنی/ القومی یفرض على طلیعة المد الثوری العربی، أن تکون فی مستوى هذه التحدیات الداخلیة والخارجیة الکبیرة، التی لا تنفصل، فکل منها یؤدی إلى الآخر ویرتبط به. ولا یزعمن أحد أنه سینجح فی الفصل بینها، فمواجهة الأنظمة التسلطیة، لا تنفصل عن مواجه المشروع الاستعماری الغربی، الذی تمثله الصهیونیة، والعکس صحیح طبعا.
وفی هذا الصدد، لا بد أن نذکر مرة أخرى، بأن روح هذا المد الثوری، یجب أن تمتد لتنهل من الرصید النضالی، الذی خلفته حرکات التحرر الوطنی/ القومی، التی لم تمیز یوما بین تحدیات الداخل وتحدیات الخارج، فقد کان النضال ضد الاستعمار، یسیر جنبا إلى جنب، مع النضال ضد الاستبداد والتسلط.
قد یشیر البعض إلى أن هذه الحرکات رغم نضالاتها لم تحقق المبتغى المطلوب، لأننا حصلنا على استقلال ناقص ومشوه، لکن یجب أن نعلم أن النضال مسیرة طویلة لا تتوقف، بل تستثمر التراکم لتحقیق الطفرة، وإذا کانت حرکات التحرر الوطنی لم تحقق کل المبتغى، فإنها شقت الطریق- وهذه أصعب مهمة- بینما یجب علینا- کجیل جدید- أن نستثمر إنجازاتها، وأن نتعلم من أخطائها، لکن ما لا یجب أن نتخلى عنه هو هذا الطریق ذاته، الذی تم شقه عبر نضالات کبیرة، تعبر عنها نتائجها طبعا.
******
الهوامش:
1 - لنظر: القضیة الفلسطینیة والخطر الصهیونی- إعداد مرکز الأبحاث والجیش اللبنانی- سلسلة الدراسات- رقم 34- بیروت: مؤسسة الدراسات الفلسطینیة- 1973، ص51
2 - تیودور هرتزل- دولة الیهود- ترجمة، تحقیق، نشر: مؤسسة الأبحاث العربیة ط: 1- 1997.
3- انظر: عبد الوهاب المسیری- موسوعة الصهیونیة.
4 - encyclopédie universalis - sionisme
5 - انظر موسوعة دائرة المعارف البریطانیة- طبعة 1943 - الصهیونیة.
6 - انظر: الموسوعة البریطانیة- طبعة 2000- الصهیونیة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS