نحو نموذج أمني
جديد في المنطقة

محمد جواد ظريف
كتب وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف المقال التالي في صحيفة العربي الجديد تحت عنوان : نحو نموذج أمني جديد في المنطقة:
وضعت الهزائم النكراء التي مُني بها تنظيم داعش في العام الأخير حداً لمشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام، وأجهضت علي الأرض، وبشكل جدي، تيار التطرف والعنف، بعد أن جرّ منطقتنا إلي إحدي أكثر الحقب التاريخية خسراناً ودماراً. وعلي الرغم من ذلك، لا تزال أنشطة الإرهاب والتطرف قائمة، وتشكل تهديداً للمنطقة وللعالم، نظراً لشبكاتها المنتشرة علي نطاق واسع في شتي بلدان العالم.
لا يزال الحؤول دون اتساع رقعة التطرّف يحتل مقام الأولوية في سلم الاهتمامات. وها نحن قد تخطينا، وعلي الأرض، تحدّي الدولة الإسلامية المصطنعة في العراق والشام، إلا أن ثمة مسافة بعيدة تفصلنا عما نتوخّاه من ظروف أمنية مستتبة. وما نواجهه نحن، وسائر اللاعبين الإقليميين في هذه الحقبة التاريخية، يتمثل في ثلاثة تحديات أساسية: الإدراك الصائب للواقع الراهن. بلورة قناعة مشتركة للوضع المنشود للمنطقة. السبل الكفيلة ببلورة هذا الوضع. علي أن من شأن تجاوز هذه التحديات علي النحو المؤمل تأمين مقومات الرخاء والأمن والأمان لأبنائنا.
لفكرة 'المنطقة القوية' جذور في الرؤية الاستراتيجية التي تتمتع بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية إزاء محيطها الإقليمي، وتعني القبول بمبدأ تأمين المصالح الجماعية، وضرورة احترامها وتعميم مبدأ الربح لكل الأطراف في المنطقة، ونبذ دوافع التفوق والنزعات التسلطية وإقصاء سائر اللاعبين.
'لفكرة 'المنطقة القوية' جذور في الرؤية الاستراتيجية التي تتمتع بها الجمهورية الإسلامية الإيرانية إزاء محيطها الإقليمي'
وعليه، سيتوقف تأمين مصالح أي من دول المنطقة علي تأمين مصالح جميع الدول فيها. ومع أن التنافس بين البلدان علي خط التنمية الاقتصادية والاجتماعية لا بأس فيه، إلا أن العمل علي النزوع للتسلط واستبعاد الخصوم للتحول إلي قوة طاغية لا يعد فقط أمراً بعيد المنال، بل سيثير أجواء من التوتر، فضلاً عن تعذر تطبيقه من حيث المبدأ.
كما أن هذا النوع من التنافس لن يؤدي إلا إلي بلورة حلقة مفرغة وهدامة، لا تنتج سوي التوتر المزمن والنزاع الدائم. من هذا المنطلق، يجب الكفّ عن ممارسة السياسات الهدامة، وصولاً إلي قناعة مفادها: إن في مقدورنا، نحن المسلمين، تحقيق الاستقرار والأمن والسلام والنمو الاقتصادي في منطقتنا، وعلينا أن نسعي إلي ذلك.
وحيث تواجه منطقتنا أنماطاً من المشكلات، كالإرهاب والأزمات البيئية وازدياد حالات الهجرة وما شاكلها، فإن سباق التسلح الهدام وإيجاد أجواء التوتر بين البلدان الجارة هو بمثابة تحميل شعوب المنطقة مزيداً من الأعباء والتكاليف، في الوقت الذي بلغت معدلات النفقات العسكرية لجيراننا في منطقة الخليج الفارسي، أعلي مستوياتها عالمياً، مقارنة مع إجمالي ناتجها المحلي. ولن تؤدي هذه السياسات إلا إلي تكريس التوتر وعدم الثقة، بالإضافة إلي هدرها الثروات الحيوية في المنطقة، وتكديس خزائن الناهبين من صناع الأسلحة، الأمر الذي لن يتكلل إلا بمزيد من المغامرات الكارثية، والنزاعات المدمرة، ما لن يدع أمامنا من سبيل سوي البدء بتفعيل سياسات بناء الثقة والطمأنينة، واعتمادها علي صعيد المنطقة.
ونظراً إلي الواقع السائد في عالمنا المترابط، والظروف التي تعيشها منطقتنا، والخليج تحديداً، فإن الآليات التي كانت تتبع قديماً لبلورة التحالفات قد بطل مفعولها وتلاشي تأثيرها. وبالتوازي، فقد مهدت بعض التباينات الديموغرافية والقدرات الاقتصادية والعسكرية لإثارة هواجس أمنية دائمة لدي البلدان الأصغر حجماً ودفعتها إلي الاعتماد علي قوي أجنبية، والعيش في أوهام شراء الأمن، أو توريده من خارج المنطقة.
تتمثل آلية الخروج من هذه الدوامة العبثية والخطرة في استحداث شبكة أمنية، يساهم فيها جميع بلدان المنطقة، في إطار أسلوب عمل مشترك، يتطلب التزام دول المنطقة بثوابت وقواعد مشتركة، مثل مبدأ المساواة بين الدول، وعدم اللجوء إلي التهديد أو القوة، وحل الخلافات بالطرق السلمية، ومبدأ احترام وحدة التراب، وعدم تدخل أي دولة في شؤون الدول الأخري، واحترام حقها في تقرير المصير.
وقد نجحت هذه التجربة في مناطق أخري، اختبرت فيما بينها سنوات من الحروب وسفك الدماء، علي الرغم من أن مصالحها المشتركة، علي الصعيدين السياسي والاقتصادي، كانت أقل بكثير مما تتمتع به بلدان منطقتنا. وعليه، ليس ثمة دليل لفقدان الأمل في إمكانية نجاح هذه التجربة في منطقتنا.
لا تصبو الشبكة الأمنية إلي استبعاد الاختلاف في الرؤي، أو غض الطرف عن المشكلات التاريخية، بل هي أسلوب يحول دون تزايد النزاعات والتحالفات المرحلية العقيمة. وفي هذا السياق، تعكف جميع بلدان المنطقة علي اتخاذ الشبكة الأمنية ركيزة وقاعدة للتعاون من أجل بلورة تدابير مستدامة تحصّن
الأمن الإقليمي. وانطلاقاً من هذه الرؤية، يتعذر تعريف أو ضمان أمن دولة، أو مجموعة من الدول، بمنأي عن أمن الآخرين. لذلك ينبغي التخلي عن الأطروحات القديمة العقيمة، لتحل محلها آليات تشخص، بل وتنتج مجالات للتلاقي في إطار
'لا تصبو الشبكة الأمنية إلي استبعاد الاختلاف في الرؤي، أو غض الطرف عن المشكلات التاريخية، بل هي أسلوب يحول دون تزايد النزاعات والتحالفات المرحلية العقيمة' المصالح المشتركة، وتسهم في تعزيز فرص التعاون بين بلدان المصالح المشتركة، وتفعيل الحوار في حال تباين وجهات النظر، وحدوث خلاف بشأن تلك المصالح.
ولبلوغ الاستقرار واستتباب الظروف الأمنية المطلوبة، علينا التحرّك في ظرفنا الراهن، وأكثر من أي وقت مضي، نحو الحوار واتخاذ خطوات علي صعيد بناء الثقة وتعزيزها. فنحن في غرب آسيا نعاني من تدني فرص الحوار والتفاهم علي المستويات كافة، وحكوماتنا بحاجة إلي بلورة أشكال من الحوار المطمئن، أكثر من قبل، كي تحقق إدراكاً متبادلاً، وتتعرّف كل منها إلي الأخري. وبفضل هذا الحوار، سيتضح أن لجميعنا حالات قلق ومخاوف وطموحات وتمنيات متماثلة نوعاً ما. وبإمكاننا، بحكم الجغرافيا والمشتركات التاريخية والثقافية والدينية، تسخير أوجه الحوار والتعاطي الإيجابي لما فيه مصالح شعوبنا. في وسع هذا الحوار، بل يجب أن يحل محل التراشقات اللفظية، والبيانات الدعائية، غير المجدية، والتي نتخاطب بواسطتها عبر وسائل الإعلام.
الحوار هو إحدي أهم الوسائل الكفيلة بإزالة مناخات عدم الثقة، لكن الحاجة تبرز أحياناً، إلي جانب الحوار المباشر، لاتخاذ تدابير ما، للحد من أجواء القلق السائد. لذلك، يجب أن يقترن الحوار بتدابير لا غني عنها، علي صعيد بناء الثقة، يتصدرها تبادل المعلومات في شتي الميادين، كما أن تحاشي حالات سوء الفهم وتجنب التصرفات المثيرة للتوتر تدخل، هي الأخري، في عداد الأهداف الرئيسة لتلك التدابير. علاوة علي ذلك، ثمّة عوامل أخري في مقدورها أن تمهد لأرضية خصبة، تفضي الي اعتماد إجراءات مطمئنة، تتمثل في تعزيز التواصل بين الشعوب، كتشجيع السياحة والتعاون في المجالات المشتركة؛ الاقتصادية والتجارية بوجه خاص. كما يمكن أن تتصدر جدول أعمال أية مباحثات مواضيعُ مثل تشكيل فرق عمل مشتركة في شتي الحقول، بدءاً من السلامة النووية، ومروراً بإدارة التلوث البيئي والكوارث الطبيعية والزيارات العسكرية المشتركة، والإشعار بإجراء المناورات العسكرية قبل إطلاقها، واعتماد الشفافية في مجال التسلح، وتقليص النفقات العسكرية، وصولاً إلي اعتماد معاهدة عدم الاعتداء.
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS