qodsna.ir qodsna.ir

قانون القومیة ومحاصرة
إسرائیل دولیا

عبدالفتاح ماضی

 

 

تُحصّن الصهیونیة نفسها لأن هناک مقاومة فلسطینیة باسلة ضدها، ولأن هناک رفضا شعبیا عربیا لمحاولات التطبیع والاستسلام. کل الطرق تؤدی إلى فناء الصهیونیة رغم ترسانة القوانین العنصریة، وقانون القومیة الذی صدر مؤخرا یقدم فرصة لا مثیل لها لمحاصرة الدولة الصهیونیة وطردها من کافة المنظمات الدولیة. وتقدم هذه المقالة بعض الدلالات المتعلقة بهذا القانون.

 

أولا: یعکس القانون الإجماع الصهیونی القائم على الثوابت والغایات الکبرى. إن فکرة یهودیة الدولة غایة قدیمة یتم تنفیذها على نحو تدریجی، وتحظى بإجماع ما یسمى الیمین والیسار فی الکیان الإسرائیلی مع بعض الاختلافات، کما أنها تنسجم مع طبیعة هذا الکیان الاستعماری.

 

لقد أقر الکنیست القانون بعد موافقة 62 نائبا ومعارضة 55 وامتناع نائبین عن التصویت فی 19 یولیو/تموز 2018، وتم تحصینه وجعله قانونا أساسیا (کنصوص الدساتیر)؛ أی لا یمکن تغییره إلا بقانون أساسی آخر یقرّه الکنیست بغالبیة أعضائه.

 

الإجماع الصهیونی هو على الثوابت والغایات الکبرى التی تقوم علیها الصهیونیة، وهی: اغتصاب الأرض والتهوید والاستیطان والتمییز على أساس الدین.

 

ومن هنا فمعظم الذین اعترضوا على القانون لم یکن اعتراضهم بسبب المبدأ، وإنما لأن الدولة لیست فی حاجة إلیه، أو لاختلافهم على بعض التفاصیل. ورغم هذا، وکما کتبنا فی مقال سابق بعنوان: "یهودیة الدولة لا تعرف من هو الیهودی"؛ تبقى هناک تناقضات کثیرة بین الأحزاب والفرق والمذاهب الیهودیة، أهمها عدم قدرتها على تعریف من هو الیهودی، واختلافها بشأن طریقة التهوید.

 

فکیف تکون الدولة یهودیة وکیف تدعی أنها دولة لکل یهود العالم بینما لا یوجد اتفاق على من هو الیهودی فی الأساس؟ إن القانون یتغاضى عن التنوع المذهبی للجماعات الیهودیة حول العالم، ولا یحسم التناقض بین النفوذ المتصاعد للیهودیة الأرثوذکسیة فی الداخل وغضب التیارات الأخرى من هذا النفوذ فی الداخل والخارج.

 

ثانیا: یکرس القانون واقع التمییز العنصری على أساس الدین الذی قامت علیه الدولة الصهیونیة ومارسته لأکثر من سبعة عقود. فالقانون ینص على أن "دولة إسرائیل هی الدولة القومیة للشعب الیهودی، وفیها یقوم بممارسة حقه الطبیعی والثقافی والدینی والتاریخی لتقریر المصیر"، ویعتبر أن "ممارسة حق تقریر المصیر فی دولة إسرائیل حصریة للشعب الیهودی".

 

ویؤکد القانون أن "العبریة هی لغة الدولة"، أما اللغة العربیة فقد خفّض منزلتها وإن جعل لها "مکانة خاصة". ویعنی کل هذا إلغاء کامل حقوق فلسطینیی 1948 لأن حق المواطنة سیکون للیهود فقط، بل ویمهد الأرض لطرد کل الفلسطینیین.

 

إن فکرة نقاء الدولة التی تقوم علیها "یهودیة الدولة" فکرة عنصریة لا یمکن أن تکون قائمة فی دولة حدیثة ودیمقراطیة. ولهذا لم یذکر القانون کلمة الدیمقراطیة لا من قریب أو بعید، لأنه فی واقع الأمر یزیل ورقة التوت التی کانت الصهیونیة تتستر بها، وأقصد هنا ادعاء أن ما أقامته هو "دولة"، وأن هذه الدولة "نظامها السیاسی دیمقراطی".

 

إن الدولة المعاصرة هی دولة القانون التی یتساوى فیها جمیع المواطنین أمام القانون فی الحقوق والواجبات، وضمن حدود جغرافیة محددة، أما النظام الدیمقراطی فیعنی حکم القانون والمواطنة الکاملة والمساواة والمشارکة وحق تقریر المصیر لجمیع مواطنی الدولة بلا تمییز.

 

ثالثا: یخرق القانون مبدأ عدم التدخل فی الشؤون الداخلیة للدول؛ فرغم أنه حدد اسم الدولة وعلمها ونشیدها وأعیادها، فإنه لم یحدد الحدود الجغرافیة لهذه الدولة، بل راح یقنن تدخل هذه الدولة فی شؤون کل دول العام التی یوجد فیها مواطنون یعتنقون الدیانة الیهودیة.

 

ویقرر القانون أن "الدولة تکون مفتوحة أمام الهجرة الیهودیة وجمع الشتات"، و"تعمل الدولة على المحافظة على المیراث الثقافی والتاریخی والدینی الیهودی لدى یهود الشتات".

القانون بهذه المضامین لا یخرق فقط کافة القرارات الدولیة التی تنص على الحقوق الشرعیة للشعب الفلسطینی، وإنما أیضا یخرق مبادئ القانون الدولی والأسس التی قامت علیها الأمم المتحدة، وعلى الأخص مبدأ المساواة فی السیادة بین جمیع أعضائها، ومبدأ عدم التدخل فی شؤون الآخرین. والدولة الإسرائیلیة -بهذا المعنى وبنص قوانینها- دولة مارقة لا مکان لها داخل المنظمات والهیئات الدولیة.

 

رابعا: یعد القانون خطوة متقدمة على طریق إسرائیل الکبرى. فالقانون لا یشرعن الاستیطان فی الأراضی المحتلة فقط، وإنما یمهد الأرض لمزید من الاحتلال والاستیطان. وینص على أن "الدولة تکون مفتوحة أمام الهجرة الیهودیة وجمع الشتات"، و"تعتبر الدولة تطویر الاستیطان الیهودی قیمة قومیة، وتعمل لأجل تشجیعه ودعم إقامته وتثبیته".

 

هذه النصوص لا تعنی الأراضی المحتلة عام 1967 فقط وإنما تمتد إلى خارجها، وتمهد الطریق للأراضی التی ستحتل فی المستقبل، أرض إسرائیل الکبرى التی تعتبر فلسطین مجرد الانطلاقة الأولى نحوها، کما نظّر لهذا زعماء الحرکة الصهیونیة منذ هرتزل.

 

ویؤکد هذا ما ورد فی الفقرة (أ) من المادة الأولى "أرض إسرائیل هی الوطن التاریخی للشعب الیهودی، وفیها قامت دولة إسرائیل"، ومن المعروف جیدا أن عبارة "أرض إسرائیل أو Eretz Yisrael" هذه لا تعنی فلسطین التاریخیة فقط، لا فی التفسیرات التوراتیة المختلفة ولا عند المفکرین والسیاسیین الصهاینة.

 

وهی تعنی عند الکثیر من المتدینین والیمینیین الأرض الممتدة من النیل إلى الفرات. وربما ستحتاج الصهیونیة لاحقا إلى قانون أساس آخر لتحدید حدودها الجغرافیة.

 

خامسا: یضع القانون الدولة الصهیونیة على یمین الأحزاب الیمینیة المتطرفة، لأنها تتبنى فکرة أکثر تشددا من جل الأیدیولوجیات الیمینیة العنصریة التی تعادی الأجانب والهجرة، إلا أنها تعمل -حتى الیوم على الأقل- ضمن نظم دیمقراطیة تضمن المساواة والمواطنة.

 

أما الصهیونیة فتعادی کل من هو غیر یهودی وتمارس ضده أشکالا مختلفة من العنصریة والتطهیر العرقی، فضلا عن أنها تحتکر الحقیقة وترید أن تفرض على العالم کله روایتها المزیفة بشأن التاریخ والحاضر والمستقبل، عبر سلسلة من المغالطات التاریخیة والأساطیر الدینیة والقوانین العنصریة.

 

إن الصهیونیة وکافة ممارساتها وقوانینها العنصریة تقف ضد التطورات المعرفیة والتکنولوجیة، وضد ثورة المعلومات التی توصلت إلیها البشریة وتعمل على إتاحة تواصل البشر وانفتاحهم، وتسمح بحریة تنقل الأفکار والأشخاص وتعزیز سبل التعاون بینهم.

 

سادسا: إن الصهیونیة تحمل عوامل فنائها، والجدید فی القانون أنه یعری جوهر الصهیونیة التی ظلت لعقود طویلة تقوم على الخداع وإخفاء الحقائق. إن استمرار المقاومة الفلسطینیة والعربیة لها -رغم خنوع الکثیر من الحکام العرب- دفع الصهاینة إلى الدفاع عن أنفسهم بترسانة من القوانین، بعد أن فشلت الممارسات العنصریة فی إخضاع العرب. ولولا هذه المقاومة لما احتاجت الصهیونیة إلى أن تحصن نفسها بهذا الشکل السافر.

 

إن القانون إحدى وسائل الصهیونیة لتحصین نفسها ضد الحرب وضد السلام اللذین یمثلان خطرا على الصهیونیة.

 

فالحرب خطر على الصهیونیة لأنها أقامت کیانها وسط محیط مختلف تماما ثقافیا وحضاریا، ومن الطبیعی أن تعادی الشعوب والقوى الحیة هذا الکیان ما دام قائما على العنصریة والتمییز. ولولا ضعف الحکومات العربیة وتبعیتها للغرب لکان الحسم العسکری ممکنا منذ سنوات عمره الأولى.

 

یستعد الصهاینة للحرب بعسکرة مجتمعهم والتحالف مع القوى الکبرى، وهذا قد یحقق لهم الأمن مرحلیا لکنه على المدى الطویل یعمل على دفع مجتمعهم إلى التحول إلى معسکر کبیر مغلق، هاجسه الدائم هو الأمن، ولا یتوفر له أی حافز للتنازل داخلیا.

 

أما السلام فخطر على الدولة الصهیونیة أیضا إذا ما قام على أسس صحیحة، إذ إن أی حل تاریخی حقیقی لا بد من أن یقوم على تفکیک الطبیعة العنصریة والتوسعیة للصهیونیة، تماما کما حدث فی جنوب أفریقیا. وبغیر هذا لا یمکن تصور حل الدولتین ولا حل الدولة الواحدة ولا أی حل آخر.

یعادی الصهاینة السلام الحقیقی بتحصین أنفسهم بسلسة من القوانین، وبزرع الکراهیة والتطرف فی التعلیم والإعلام ضد کل من هو غیر یهودی، على وضع یجعل السلام معه مستحیلا.

 

وقد ساعدهم هذا فی توسیع الاستیطان وإفساد کل محاولات التسویة السلمیة، لکنه لن یحقق لهم البقاء إلى الأبد، لأن هذه الممارسات والقوانین ستؤدی -على المدى الطویل- إلى مزید من العنصریة والتمییز والکراهیة، وستضعف قدرة السیاسیین الإسرائیلیین على جلب التعاطف والدعم لسیاساتهم ومواقفهم على المستوى الدولی.

 

أخیرا، إن القانون یقنن رسمیا دولة الأبارتاید الدینی، وهذه سابقة لا مثیل لها فی عالمنا المعاصر، وعلى جمیع القوى الحیة من أفراد ومنظمات وهیئات شعبیة -وبالتعاون مع نظرائها فی الخارج- استغلال هذا الطابع "القانونی والدستوری"، والقیام بحملات لمحاصرة الدولة الصهیونیة دولیا، والمطالبة بتعلیق عضویتها فی کافة المنظمات والهیئات الدولیة، وتجمید کافة الاتفاقیات الدولیة معها.

 

إن الحجج هنا صارت مقننة وصادرة رسمیا من هیئات دولة الأبارتاید. لکن لن تکون مثل هذه المواقف فاعلة إلا باستمرار النضال الفلسطینی على الأرض، وتشکیل جبهة فلسطینیة واحدة للصمود والمقاومة، واستمرار الرفض الشعبی العربی للتطبیع، واستمرار الضغط على الحکومات العربیة للکف عن سیاساتها الانهزامیة، وللتتقوّى بشعوبها وبدولة القانون والمؤسسات المدنیة المنتخبة.

 


| رمز الموضوع: 315729