خیارات إسرائیل المستقبلیَّة تجاه حماس
خیارات إسرائیل المستقبلیَّة تجاه حماس
صالح النعامی
صدَرتْ عن رئیس الوزراء الإسرائیلی بنیامین نتنیاهو مؤشِّرات متضاربة بشأن توجُّهات حکومته بخصوص صفقة تبادل الأسرى مع حرکة حماس وإمکانیَّة توجیه ضربة عسکریَّة لقطاع غزة، فقد اختار نتنیاهو أن یعلن عن استئناف الجهود الهادفة للتوصُّل لصفقة تبادل أسرى، وسمح لقادة جیشِه ومستویات سیاسیَّة أخرى بعقْد لقاء مع أسرى حرکة حماس فی السجون الإسرائیلیَّة، علاوةً على أن معظم التسریبات التی تحدَّثَت عن حدوث تقدُّم فی صفقة تبادل الأسرى هی تسریبات إسرائیلیَّة.
لکن فی الواقع لا یوجد ثَمَّة مؤشِّرات على حدوث تغییر حقیقی فی مواقف نتنیاهو وحکومتِه یسمح بحدوث تقدم، حیث إن إسرائیل تصرُّ حتى الآن على إبعاد جمیع الأسرى من الضفة الغربیَّة إما لقطاع غزة أو للخارج، فی حین ترفض الإفراج عن خمسة عشر أسیرًا تصفُهم بأنهم یمثِّلون "رموزًا" للمقاومة، ومما یعزِّز مواصلة إسرائیل تعنُّتَها فی کلِّ ما یتعلق بقضیة تبادل الأسرى هو عدم وجود رأی عام إسرائیلی ضاغط على حکومة نتنیاهو، فلم تعدْ عائلة الجندی الإسرائیلی المختطَف جلعاد شالیط قادرةً على تجنید إلا بعض العشرات من المتضامنین الذین باتوا یائسین، إلى جانب ذلک فإن الکثیر من النُّخَب الإسرائیلیَّة وتحدیدًا النخب الإعلامیَّة أخذت توجِّه انتقادات حادَّة لهذه العائلة وتتهمها بأنها تعمل على المسّ بمصالح إسرائیل الأمنیَّة.
ولکی تزداد الأمور تعقیدًا فقد ألمحَ نتنیاهو فی أکثر من مناسبة إلى إمکانیَّة توجیه ضربة عسکریَّة للقطاع، عندما تحدَّث عما أسماه خطر الصواریخ المضادَّة للطائرات التی تَمَّ نصبُها فی قطاع غزة-وباتت بزعمه- تهدِّد الطائرات التی تستعدُّ للإقلاع أو الهبوط فی مطار بن جوریون، علاوةً على تهدیدِها الطیران الحربی فی محیط القطاع، وقد تحدَّث عن نتنیاهو عن الحاجة لتوفیر ردّ على هذا التهدید، صحیح أن نتیناهو لم یتحدثْ بشکل مباشر وصریح عن عمل عسکری ضد قطاع غزة، إلا أنه عندما یختار أن یتحدَّث عن خطر تهدید الطیران الحربی والملاحة المدنیَّة أمام أعضاء کتلة حزبه البرلمانیَّة فإنه فی الواقع یلتزم بعمل شیء ما ضد ما یعتبره خطرًا کبیرًا، فبعد تشکیل لجنة "فینوجراد" التی حقَّقت فی أسباب القصور فی حرب لبنان ثانیةً، فإنه لا یمکن لصانع القرار فی إسرائیل ألا یتحرَّک ضدّ ما یعتبره مصدر خطر على إسرائیل.
ومع ذلک فهل یمکن فهم تصریح نتنیاهو الذی ینضمُّ لعددٍ من التهدیدات المباشرة وغیر المباشرة على أنه توجُّه حقیقی نحو شنّ عمل عسکری جدید على القطاع، وکیف یمکن فهم هذه التصریحات فی ظلّ الحدیث عن صفقة تبادل أسرَى؟
إن اختبار استعداد إسرائیل لشنّ عملٍ عسکری ما على قطاع غزة یتوقَّف بشکلٍ أساسی على طبیعة هذا العمل، فإن کان المقصود هو شنّ عمل عسکری کبیر على غرار الحرب الأخیرة على القطاع، فإن العدید من المؤشِّرات لا تصبُّ فی هذا الاتجاه؛ فإسرائیل قد تتجهُ لشنّ مثل هذه الحرب فقط فی حال استئناف عملیَّات إطلاق الصواریخ من قطاع غزة على المستوطنات الیهودیَّة داخل إسرائیل وعلى نطاق واسع، أو فی حال تمکَّنت المقاومة من تنفیذ عملیَّات ناجحة عبر الحدود، مثل اختطاف الجنود مثلًا، مع العلم أنه قد حدث تراجع على حدَّة إطلاق القذائف الصاروخیَّة من قطاع غزة إلى إسرائیل فی الآونة الأخیرة بشکل واضح.
من ناحیةٍ ثانیة فإن قادة الجیش الإسرائیلی یعلنون أن أهم نتیجة أسفرت عنها الحرب الأخیرة هو تحقیق الرد فی مواجهة حرکات المقاومة فی قطاع غزة، وبالتالی فإن شنّ عمل عسکری حالیًا سیعملُ على تآکل ما راکمَتْه إسرائیل من ردْع لأنه سیدفع المقاومة لإطلاق عدد کبیر من القذائف الصاروخیَّة التی قد تستهدفُ مناطق حسَّاسة وسط وجنوب فلسطین المحتلة عام 1948.
ومن ناحیةٍ ثالثة فإن کل المؤشِّرات تشیر إلى أن المجتمع الدولی لا زال متأثرًا إلى حدٍّ کبیر بکل بما أسفرت عنه الحرب الإجرامیَّة الأخیرة من فظائع ضدّ المدنیین الفلسطینیین، وبالتالی فإن إسرائیل تدرک أن الجرائم التی اقترفتها خلال الحرب وما أعقبها من تداعیات، لا سیَّما تقریر جولدستون لا زالت ماثلة، وفی إسرائیل یدرکون حجم الضرر الذی مسّ مکانة إسرائیل جراء هذه التداعیات، ومما لا شکّ فیه أن تعثُّر المفاوضات المباشرة مع السلطة الفلسطینیة یصعب مهمة شن عمل عسکری واسع على قطاع غزة، فمن الصعب على إسرائیل تسویغ الحرب بأنها تشنّ ضدّ جهة تحبط فرص التسویة فی المنطقة، کما زعمت عشیَّة وخلال الحرب الأخیرة على القطاع. فباستثناء الولایات المتحدة، فإن هناک إجماعًا داخل دول العالم على أن إسرائیل تتحمَّل المسؤولیَّة عن الطریق المسدود التی وصلت إلیه المفاوضات.
إذن کیف یمکن فهم التصریحات الإسرائیلیَّة المتعلِّقة بشأن صفقة تبادل الأسرى والتلمیحات بشأن عملٍ عسکری ضد غزة؟
هناک علاقة بین هذه التصریحات وإن بدتْ متناقضةً، فالتلمیح بشنّ حرب على القطاع یمکن أن یمثِّل محاولةً للضغط على حرکة حماس بأن تتراجع عن مواقفها السابقة بشأن الصفقة، ولسان حال نتنیاهو یقول: لن یکون هناک جمود، فإما صفقة وإما ضربة عسکریَّة جدیدة، وفی هذه الحالة لا یقصد نتنیاهو تنفیذ تهدیداتِه المبطَّنة.
وهناک احتمالٌ أن یکون نتنیاهو مستعدًّا لتنفیذ عمل عسکری محدود جدًّا من أجل تحسین مکانة إسرائیل فی المفاوضات غیر المباشرة على الصفقة، کأن تحاول إسرائیل تنفیذ عملیَّات اختطاف لعددٍ من قادة المستوى السیاسی والعسکری فی حرکة حماس من أجل إرغام الحرکة على القبول بموقفها من الصفْقة.
لقد تبیَّن من تاریخ الصراع مع الکیان الصهیونی أنه من الخطیئة توقُّع السلوک الإسرائیلی بناءً فقط على تصریحات قادتِه، فبناء تصوُّرات واقعیَّة بشأن السلوک الإسرائیلی یتوقَّف على مرکَّبات البیئة الاستراتیجیَّة والعسکریَّة والسیاسیَّة الداخلیَّة والإقلیمیَّة والعالمیَّة.
ن/25